كلُّ ذلك وأصحابُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعقلون ما أنزَل الله إليهم، وما استَشكَلُوه سألوا عنه، فلم يقبضِ الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا وقد كمل الدِّين، ورسخ فهم أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الدِّين، وخاصَّة مسائل الاعتقاد التي امتَلأتْ بها سور القُرآن وأقوال النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففهمها الصحابة - رضِي الله عنهم - على الوجْه الأكمل، وبلَّغوها لأتباعهم على أكمل وجهٍ، وبيَّنوا لهم ما استَشكَلوه، وردوا كلَّ بدعةٍ ظهرت في زمنهم بالحجَّة والبرهان، وأوضحوا لأتباعهم السبيل المستقيم، الذي يجبُ عليهم اتِّباعه، ألا وهو: اتِّباع الكتاب والسُّنَّة وما عليه الصحابة في فهْم الدِّين.
فقال ابن مسعود - رضِي الله عنه:"اتَّبعوا آثارنا ولا تبتَدِعوا، فقد كُفِيتم، وكلُّ بدعة ضلالة" [1] .
وقال حُذَيفة بن اليَمان - رضِي الله عنه:"اتَّقوا الله يا معشر القُرَّاء، وخُذوا طريقَ مَن كان قبلكم، فوالله لئنْ استقمتُم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئنْ تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا" [2] .
ثم خلف من بعدهم خلفٌ، فارَقوا طريق الصحابة في أخْذ الدين، فلم يَأخُذوه كما أمر الله ورسوله وبيَّنه الصحابة - رضِي الله عنهم - وإنما أخَذوا بعضه وترَكوا بعضه، واحتجُّوا بعقولهم في الردِّ على فهْم الصحابة، كما فعلت الخوارج، إذ أخذت ببعض المتشابه من القُرآن، فنزَّلوا آيات واردة في الكفَّار على المؤمنين فكفَّروا المؤمنين، ولم يلتفتوا إلى أصلٍ عظيم، وهو أنَّ هذه الآيات نزَلتْ على الصحابة، وهم أعلم الناس فيما نزَلتْ، وما المراد بها، وفسَّر لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما أشكَلَ عليهم منها، كما ورد عن طلقٍ أنَّه قال:"كنت من أشدِّ الناس تكذيبًا بالشَّفاعة، حتى لقيت جابر بن عبدالله، فقرأت عليه كلَّ آيةٍ ذكرها الله - عزَّ وجلَّ - فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق، أتراك أقرَأُ لكتاب الله منِّي، وأعلم بسُنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاتَّضعت له، فقلت: لا والله، بل أنت أقرأ لكتاب الله منِّي، وأعلم بسنته منِّي، قال: فإنَّ الذي قرأت أهلها هم المشركون، ولكن قوم أصابوا ذنوبًا، فعُذِّبوا بها، ثم أخرجوا، صُمَّا - وأهوى بيديه إلى أذنيه - إنْ لم أكنْ سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: (( يخرجون من النار ) )، ونحن نقرأ ما تقرأ" [3] .
(1) يأتي تخريجه في كتاب الاعتصام برقم (964) .
(2) يأتي تخريجه في كتاب الاعتصام برقم (962) .
(3) يأتي تخريجه في كتاب الاعتصام برقم (1124) .