و أن يقضي حق العلم بالترفع عن ذلك كله، و أن تكون غايته ابتغاء وجه الله يسمو عن الجواذب الأرضية و المقاصد الترابية و الأمور الدنيوية و الأهداف المعيشية و أن يكون هدفه لله و بالله عز و جل (إِنَّمَايَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، و ما أحسن ما تلفظ به أبو بكر الجرجاني الفقيه الشافعي المعروف من حكم و درر لما لاموه على أن لم يأخذ مكانه لدى المواكب و المراكب و الوجهاء والسلاطين وهو العالم المعروف و كيف يعتزل و أنه رجل منقبض و غير ذلك ففاه بأبيات كلها حكمة يقول:
يقولون لي فيك انقباض و إنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... و من أكرمته عزة النفس أُكرما
و لم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا مطمع صيرته لي سلما
و لم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرساً و أجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
فإن قلت زند العلم كاب فإنما ... كبا حين لم نحرس حماه و أظلما
و لو أن أهل العلم صانوه صانهم ... و لو عظموه في النفوس لعُظما
و لكن أهانوه فهان و دنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
و إني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب كفي إثره متندما
و لكنه إن جاء عفواً قبلته ... و إن مال لم أتبعه هلاّ و ليتما
و ما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... عن الذل اعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... و لكن نفس الحر تحتمل الظما
يجنبها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيما أو لما
و كم طالب رقي بنعماه لم يصل إليه ... و إن كان الرئيس المعظما
و كم نعمة باتت على الحر نقمة ... و كم مغنم يعتده الحر مغرما