عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت بجمع نصوص القرآن وخاصة بعد موت عدد كبير من حفظة القرآن في اليمامة، وكان هذا الأمر غير مقبول لدى الصحابة رضي الله عنهم في البداية، ولكن الله شرح صدورهم له كما شرح صدر أبي بكر له، فكلف أبو بكر زيد بن ثابت بمهمة الكتابة، فقال لزيد: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك, قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فتتبع القرآن فاجمعه.

فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو -والله- خير.

فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر, فكنت أتتبع القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال.

وكان الأمر شديدا على زيد لكنه قام بها خير قيام، فكان هذا الأمر أول جمع للقرآن، وبقي المصحف عند أبي بكر في خلافته.


فتح المسلمون بقيادة خالد بن الوليد بلدة أمغيشيا، وكانت مصرا كالحيرة، وقيل: اسمها منيشيا، وهي تقع على نهر الفرات، ولم يقع بأمغيشيا قتال، وإنما هجرها أهلها بعد هزيمة الفرس في أليس، فدخلها المسلمون فاتحين، وأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك، بلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء, وأرسل إلى أبي بكر بالفتح والغنائم والسبي، وأخرب أمغيشيا.

فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: عجز النساء أن يلدن مثل خالد.


قامت وقعة الولجة بين الفرس والمسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، والولجة مكان في العراق، وسميت المعركة باسمه لوقوع الأحداث فيه, لما وقع الخبر بأردشير بمصاب قارن وأهل المذار، جند الملك جيشا عظيما من قبيلة بكر بن وائل والقبائل الأخرى الموالية له, تحت قيادة قائد مشهور منهم يدعى الأندرزغر, وكان فارسيا من مولدي السواد.

وأرسل بهمن جاذويه في إثره ليقود جيوش الملك, وحشر الأندرزغر من بين الحيرة وكسكر ومن عرب الضاحية, فلما اجتمع للأندرزغر ما أراد واستتم أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد، ولما بلغ خالدا وهو بالقرب من نهر دجلة خبر الأندرزغر ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن مقرن، وأمره بلزوم الحفير، وتقدم إلى من خلف في أسفل دجلة، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك الاغترار، وخرج خالد سائرا في الجنود نحو الولجة، حتى نزل على الأندرزغر بالولجة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه، وكان قد وضع لهم كمينا في ناحيتين، عليهم بسر بن أبي رهم، وسعيد بن مرة العجلي، فخرج الكمين في وجهين فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا، فأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، وكانت الهزيمة كاملة؛ ففر الفرس وفر العرب الموالون لهم, بعد أن قتل وأسر منهم عددا عظيما, ومضى الأندرزغر منهزما, فمات عطشا في الفلاة, وبذل خالد الأمان للفلاحين؛ فعادوا وصاروا أهل ذمة, وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم.


كتب هرمز إلى أردشير وشيرى بخبر مسير خالد إليه من اليمامة، فأمده بقارن بن قريانس، فخرج قارن من المدائن حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة، فعسكر قارن وفلول الفرس بالمذار بالقرب من نهر دجلة، واستعمل على مجنبته قباذ وأنوشجان، ولما انتهى الخبر إلى خالد عن قارن قسم الفيء على من أفاءه الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث ببقيته وبالفتح إلى أبي بكر.

ثم خرج خالد سائرا حتى نزل المذار على قارن في جموعه، فالتقوا وخالد على تعبيته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى فابتدراه، فسبقه إليه معقل فقتله، وقتل عاصم بن عمرو الأنوشجان، وقتل عدي بن حاتم قباذ, وقتلت فارس مقتلة عظيمة، فركب الفرس السفن، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء، ونفل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس،  وقيل: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتي على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة.

ثم أخذ خالد يسبي ذراري المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا، وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء، فأجابوا وتراجعوا، وصاروا أهل ذمة، وصارت أرضهم لهم.

وكان في السبي حبيب أبو الحسن -يعني أبا الحسن البصري- وكان نصرانيا.


كان الآزاذبة مرزبان الحيرة, فلما أخرب خالد أمغيشيا علم الآزاذبة أنه غير متروك، فأخذ في أمره وتهيأ لحرب خالد، لما توجه خالد إلى الحيرة وحمل الرحال والأثقال في السفن أرسل الآزاذبة ابنه ليقطع الماء عن السفن, فتعجل خالد في خيل نحو ابن الأزاذبة فلقيه على فرات بادقلى، فقتله وقتل أصحابه، وسار نحو الحيرة، فهرب منه الآزاذبة، وكان قد بلغه موت أردشير وقتل ابنه، فهرب بغير قتال، فتحصن أهل الحيرة فحصرهم في قصورهم.

دخل خالد الحيرة، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بدعوته إحدى ثلاث، فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا أن يؤجلوهم يوما، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.

فلما دعوهم أبوا إلا المنابذة, فنشب القتال وأكثر المسلمون القتل فيهم، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم.

فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث، فادعوا بنا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.

فخرج قائد من كل قصر، فأرسلوا إلى خالد، مع كل رجل منهم ثقة، ليصالح عليه أهل الحصن، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وقد حاور خالد بن الوليد أحد رؤسائهم وهو عمرو بن عبد المسيح ابن بقيلة، وكان مع خادمه كيس فيه سم، فأخذه خالد ونثره في يده وقال: لم تستصحب هذا؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، فكان الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي.


لما أصاب خالد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل الذين أعانوا الفرس غضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الفرس، واجتمعوا على أليس وعليهم عبد الأسود العجلي وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه يأمره بالقدوم على نصارى العرب بأليس، فقدم بهمن جاذويه جابان إليهم، فاجتمع على جابان نصارى العرب من أهل الحيرة.

وكان خالد لما بلغه تجمع نصارى بكر وغيرهم سار إليهم ولا يشعر بدنو جابان.

فلما طلع جابان بأليس قالت العجم له: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتلهم؟ فقال جابان: إن تركوكم فتهاونوا بهم.

فعصوه وبسطوا الطعام، وانتهى خالد إليهم وحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، وطلب مبارزة عبد الأسود وابن أبجر ومالك بن قيس، فبرز إليه مالك من بينهم، فقتله خالد وأعجل الأعاجم عن طعامهم.

فقال لهم جابان: حيث لم تقدروا على الأكل فسموا الطعام، فإن ظفرتم فأيسر هالك، وإن كانت لهم هلكوا بأكله.

فلم يفعلوا، واقتتلوا قتالا شديدا، والمشركون يزيدهم ثبوتا توقعهم قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين، فقال خالد: اللهم إن هزمتهم فعلي أن لا أستبقي منهم من أقدر عليه حتى أجري من دمائهم نهرهم.

فانهزمت فارس فنادى منادي خالد: الأسراء الأسراء، إلا من امتنع فاقتلوه.

فأقبل بهم المسلمون أسراء، ووكل بهم من يضرب أعناقهم يوما وليلة.

فقال له القعقاع وغيره: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأرسل عليها الماء تبر يمينك، ففعل فسال النهر دما عبيطا، فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم، ووقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد نفلتكموه، فتعشى به المسلمون، وجعل من لم ير الرقاق يقول: ما هذه الرقاق البيض؟


ركب خالد في جيوشه بعد فتح الحيرة حتى انتهى إلى الأنبار وعليها قائد يقال له: شيرزاذ، فأحاط بها خالد، وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع معهم أهل أرضهم، ولما تواجه الفريقان أمر خالد أصحابه فرشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين، وسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل شيرزاذ خالدا في الصلح، فاشترط خالد أمورا فامتنع شيرزاذ من قبولها، فتقدم خالد إلى الخندق فاستدعى بردايا الأموال من الإبل فذبحها حتى ردم الخندق بها وجاز هو وأصحابه فوقها، فلما رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن يرده إلى مأمنه فوفى له بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار وتسلمها خالد، فنزلها واطمأن بها، وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية، ثم صالح خالد أهل البوازيج وكلواذى.


لما فرغ خالد بن الوليد من الأنبار واستحكمت له استخلف على الأنبار الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالد.
، قال: صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم -فخدعه واتقى به- وقال: دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم.

فقالت الأعاجم له: ما حملك على هذا؟ فقال: إن كانت له فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى تهنوا، فنقاتلهم وقد ضعفوا.

فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عنده، فإني حامل.

ووكل بنفسه حوامي، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرا، وانهزم صفه من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، واتبعهم المسلمون، ولما جاء الخبر مهران هرب في جنده، وتركوا الحصن، ولما انتهت فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به، وأقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عقة أسير، وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حكمه، وأمر خالد بعقة وكان خفير القوم فضربت عنقه ليوئس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحا على الجسر يئسوا من الحياة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم في أهل البلاء، منهم نصير أبو موسى بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين.


بعد أن انصرف خالد من عين التمر أقام بدومة الجندل فظن الفرس أنه قد غادر العراق متوجها إلى الجزيرة العربية مع القسم الأكبر من قواته، فأرادوا طرد قواته من العراق، واستعادة الأراضي التي فتحها المسلمون؛ فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبا لعقة، فخرج زرمهر وروزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدا والخنافس، فسمع  القعقاع بن عمرو وهو خليفة خالد على الحيرة، فأرسل أعبد بن فدكي وأمره بالحصيد، وأرسل عروة بن الجعد البارقي إلى الخنافس، ورجع خالد من دومة إلى الحيرة وهو عازم على مصادمة أهل المدائن محلة كسرى، لكنه كره أن يفعل ذلك بغير إذن أبي بكر الصديق، وشغله ما قد اجتمع من جيوش الأعاجم مع نصارى الأعراب يريدون حربه، فبعث القعقاع بن عمرو أميرا على الناس، فالتقوا بمكان يقال له: الحصيد، وعلى العجم رجل منهم يقال له: روزبه، وأمده أمير آخر يقال له: زرمهر، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزم المشركون وقتل منهم المسلمون خلقا كثيرا، وقتل القعقاع بيده زرمهر، وقتل رجل يقال له: عصمة بن عبد الله الضبي روزبه.

وغنم المسلمون شيئا كثيرا، وهرب من هرب من العجم، فلجأوا إلى مكان يقال له: خنافس، فسار إليهم أبو ليلى بن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المصيخ، وعندما وصل أبو ليلى إلى الخنافس وجدها خالية من الفرس، فأقام بها مدة، ثم أرسل إلى خالد بن الوليد ينهي إليه أنباء استيلائه على المدينة، ويخبره بفرار الفرس إلى المصيخ، فلما استقر الفرس  بالمصيخ بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق، وأغار عليهم ليلا وهم نائمون فأنامهم، ولم يفلت منهم إلا اليسير فما شبهوا إلا بغنم مصرعة.


سار خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيوشه المجتمعة إلى الفراض على تخوم الشام والعراق والجزيرة، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين, فأقام هنالك شهر رمضان مفطرا لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم حموا وغضبوا وجمعوا جموعا كثيرة، ثم ناهدوا خالدا فحالت الفرات بينهم، فقالت الروم لخالد: اعبر إلينا.

وقال خالد للروم: بل اعبروا أنتم.

فعبرت الروم إليهم، فاقتتلوا هنالك قتالا عظيما بليغا، ثم هزم الله جموع الروم وتمكن المسلمون من اقتفائهم، فقتل في هذه المعركة من الفرس والروم والعرب المتنصرة أكثر من مائة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام، ثم رتب لرجوع جيشه للحيرة، ثم  اتجه مع بعض جنده للحج دون علم أحد بهم.


أقام خالد بن الوليد بالفراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة, ثم انطلق في كوكبة من أصحابه، وقصد شطر المسجد الحرام، وسار إلى مكة في طريق لم يسلك قبله قط، وتأتى له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير معتسفا على غير جادة، حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج, ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أبو بكر الصديق بذلك أيضا إلا بعد ما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش، وأمره بالذهاب إلى الشام ممدا جموع المسلمين.


بعث رستم جيشا لقتال أبي عبيد بن مسعود الثقفي فالتقى الطرفان في النمارق بين الحيرة والقادسية، وكان على خيل المسلمين المثنى بن حارثة، فهزم الفرس وهربوا وساروا إلى كسكر فلحقهم  أبو عبيد  ثم هزمهم ثانية وفر الفرس إلى المدائن.

وجمع المسلمون الغنائم من كسكر، فرأوا من الأطعمة شيئا عظيما، فاقتسموه وجعلوا يطعمونه الفلاحين، وبعثوا بخمسه إلى عمر وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها، وأحببنا أن تروها، ولتذكروا إنعام الله وإفضاله.


كان أبو بكر قد أمر خالد بن الوليد بعد أن انتهى من الفراض بالانتقال إلى الشام؛ لمساندة جيوش الفتح هناك، فسار خالد من الفراض حتى وصل اليرموك وجاء كتاب عمر بعد اليرموك: أن ابدؤوا بدمشق فإنها حصن الشام.

ولما وصلت جيوش المسلمين دمشق شددوا الحصار عليها سبعين يوما، طوقوها من جهاتها كلها، ومنعوا المدد إليها، فانكسرت حميتهم وفتحت المدينة بعد أن تم احتلال الغوطة منعا للإمدادات، وولي عليها يزيد بن أبي سفيان، ثم سار المسلمون إلى فحل، ثم إلى حمص، ثم إلى قنسرين واللاذقية وحلب.


كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجلى اليهود من المدينة تباعا؛ وذلك لنقضهم العهود، واستثارتهم الفتن والحروب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في أرض العرب).

وكانت اليهود قد استقرت في خيبر وما حولها بعد جلائهم من المدينة، وبقوا على ذلك حتى قام عمر بإجلائهم من خيبر إلى الشام عملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأما نصارى نجران فقد أجلاهم عمر إلى الشام في سنة 17هـ لما كثر عددهم وعظم خطرهم على معقل الإسلام.


قام الصديق أبو بكر رضي الله عنه بعقد أربعة ألوية لفتح بلاد الشام بعد أن فرغ من حروب الردة، وجعل قيادتها لأبي عبيدة بن الجراح، ووجهته حمص، وعمرو بن العاص ووجهته فلسطين، وشرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، ويزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق.

وقد أدت هذه الجيوش دورها الفعال في مقاتلة الروم وانتصروا في مواقع كثيرة، وكان الروم في جميعها أكثر عددا وعدة.


لما رأى المسلمون مطاولة الروم لهم بالشام استمدوا أبا بكر، فكتب إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إليهم وبالحث، وأن يأخذ نصف الناس ويستخلف على النصف الآخر المثنى بن حارثة الشيباني، ولا يأخذن من فيه نجدة إلا ويترك عند المثنى مثله، وإذا فتح الله عليهم رجع خالد وأصحابه إلى العراق.

اتجه خالد من العراق إلى الشام وفتح عددا من المدن، وصالح بعضها، وصل شرقي جبل حوران، ثم تدمر، ثم القريتين من أعمال حمص، ثم قاتل غسان في مرج راهط وانتصر عليهم، ثم سار إلى بصرى الشام وكانت أول مدينة افتتحها من بلاد الشام حتى بلغ جموع المسلمين في اليرموك، وكان مما مر به خالد مع جيشه مفازة بين قراقر وسوى لا ماء فيها ولا كلأ، الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود، لكن خالدا استعان بدليل يقال له: رافع بن عميرة الطائي، ساعده على تجاوز المفازة بسلام مع جيش قوامه تسعة آلاف مقاتل.


وقعت معركة "مرج الصفر" بين الروم بقيادة ماهان، والمسلمين بقيادة خالد بن سعيد، وذلك في بدايات فتح المسلمين لبلاد الشام، حيث أخذ خالد طريقه لمرج الصفر للهجوم على الروم مما أدى بقائدهم ماهان إلى أن ينحدر بجيشه حتى يستدرج جيوش المسلمين التي اتجهت إلى الجنوب ووصلت إلى مرج الصفر شرق بحيرة طبرية، واغتنم الروم على المسلمين الفرصة وأوقعوا بهم الهزيمة، وصادف ماهان سعيد بن خالد بن سعيد في كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعيدا في مقدمتهم، وبلغ خالدا مقتل ابنه، ورأى نفسه قد أحيط به فخرج هاربا في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، وقد نجح عكرمة بن أبي جهل في سحب بقية الجيش إلى حدود الشام، وانتهت المعركة بانتصار الروم.


هو أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي.

وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول الخلفاء الراشدين، من أوائل المصدقين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، بقي معه في مكة حتى هاجر معه فكان صاحبه في ذلك، قدمه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة بالناس في مرض موته، أنفق في سبيل الله كل ماله، كان وزير النبي صلى الله عليه وسلم وصاحب مشورته، بايعه المسلمون على الخلافة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور، توفي أبو بكر الصديق بعد أن بقي خليفة مدة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، توفي بعد أن مرض، وقد قام خلال هذه المدة القصيرة برد المرتدين وحربهم والتي شملت أجزاء الجزيرة كلها، ثم كانت الحروب مع الفرس والروم حيث أظهرت قوة المسلمين وإمكاناتهم القتالية التي لا يستهان بها، دفن بجانب النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، فكان مع صاحبه كما كان معه في الدنيا، فجزاه الله عن الأمة الإسلامية خيرا ورضي الله عنه وأرضاه.


لما مرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأحس بدنو أجله جمع عددا من الصحابة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم وعرض عليهم أن يؤمروا رجلا يرضونه في حياته؛ ولكنهم لم يستقروا على أمر، ثم بدأ يسأل الناس عن عمر بن الخطاب، ثم استقر رأيه على استخلاف عمر، فكتب بذلك كتابا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد، فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا منه.

وقال: اللهم إني استخلفت على أهلك خير أهلك.

وبلغ بذلك الناس، ورضوا به، فكانت تلك خلافة عمر رضي الله عنه.


بعد أن هزم الفرس في النمارق وما بعدها اجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشا كثيفا ومعهم راية كسرى وراية أفريدون  فالتقوا مع المسلمين وبينهم جسر فعبر أبو عبيد بن مسعود الثقفي الجسر إليهم وجرت المعركة، وكانت فيلة الفرس تؤذي المسلمين وتؤذي خيولهم، فقتل عدد من قادة المسلمين منهم أبو عبيد القائد، واستحر القتل في المسلمين فمضوا نحو الجسر فقطعه أحد المسلمين وقال: قاتلوا عن دينكم.

فاقتحم الناس الفرات فغرق ناس كثير، ثم عقد المثنى الجسر وعبر المسلمون واستشهد يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة، وقيل أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وانحاز بالناس المثنى بن حارثة الشيباني.