لما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج في يثرب، أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم، فاجتمع طواغيت مكة في دار الندوة ليتخذوا قرارا حاسما في هذا الأمر.

وكان اجتماعهم بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة, تكفل القضاء سريعا على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته, ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد, سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيا ونصحا.

قالوا: أجل، فادخل.

فدخل معهم.

وبعد أن تكامل الاجتماع, ودار النقاش طويلا.

قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا, وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتبعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا.

قال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله - زهيرا والنابغة - ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.

بعد ذلك تقدم كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام باقتراح آثم وافق عليه جميع من حضر, قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم.

قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.

ووافقوا على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع.


عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين».

وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي».

فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم».

فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر.

قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك».

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.

قال: «فإني قد أذن لي في الخروج».

فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».

قال أبو بكر: فخذ -بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن».

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت: ذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا، يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.

قال: سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، دية كل واحد منهما، من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: «أخف عنا».

فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشأم، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار -ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.


لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بقباء بضع عشرة ليلة، وأسس فيها المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته من قباء فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل».

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول، وهو ينقل اللبن: "هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أبر ربنا وأطهر.

ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخره، فارحم الأنصار، والمهاجره" وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف.

فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاءوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بني النجار فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا».

قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.

فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: «اللهم لا خير إلا خير الآخره، فاغفر للأنصار والمهاجره».

 قال عبد الله بن عمر، " إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل.


كان من آثار هجرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة تلك المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، حتى كان يرث بعضهم بعضا في أول الأمر.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {ولكل جعلنا موالي} قال: «ورثة»: {والذين عاقدت أيمانكم} قال: " كان المهاجرون لما  قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت: {{ولكل جعلنا موالي} نسخت".

ثم قال: {والذين عاقدت أيمانكم} «إلا النصر، والرفادة، والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له».

وعن أنس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير، ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنإ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم».

وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي  زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها.

قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع.

قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجت؟».

قال: نعم.

قال: «ومن؟»، قال: امرأة من الأنصار.

قال: «كم سقت؟»، قال: زنة نواة من ذهب -أو نواة من ذهب- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أولم ولو بشاة».


بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في سرية إلي بطن رابغ -هي ميقات أهل الشام ومصر وتركيا ومن سلك طريقهم- في شعبان على رأس ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواء أبيض، وحمله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف، وكانوا في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب، وهو في مائتين على بطن رابغ، على عشرة أميال من الجحفة، وكان بينهم الرمي، ولم يسلوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعد بن أبي وقاص فيهم، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، ثم انصرف الفريقان إلى حاميتهم.


أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى سيف -ساحل- البحر، أمر عليها حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين، وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيض، وكان حامله أبا مرثد كناز بن حصين الغنوي رضي الله عنه، وكان هدف هذه السرية اعتراض عير لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاث مئة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص -اسم موضع قرب المدينة على ساحل البحر- فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني -وكان حليفا للفريقين جميعا- بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم، فلم يقتتلوا.

وقد كانت سرية حمزة رضي الله عنه في وقت واحد مع سرية عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى رابغ.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس تسعة أشهر من الهجرة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عشرين من المهاجرين.

وقيل: ثمانية إلى الخرار.

وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو رضي الله عنه.

والخرار: واد يتوصل منه إلى الجحفة، وقد عهد صلى الله عليه وسلم إليه ألا يجاوزه؛ ليعترض عيرا لقريش تمر بهم، فخرجوا يمشون على أقدامهم، يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان المذكور في صبح خمس؛ فوجدوا العير قد مرت بالأمس؛ فضربوا راجعين إلى المدينة من غير حرب.


أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة.

وهي قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.

قيل سميت بذلك لما كان فيها من الوباء، وهي غزوة ودان بتشديد الدال، قال إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان، وهي الأبواء.

خرج من المدينة على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة يريد قريشا، فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة، من كنانة، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضمري، ورجع بغير قتال.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل على المدينة سعد بن عبادة.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا فلقوا جمعا من قريش فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله.


غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر الأولى حتى بلغ وادي سفوان؛ حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره يطلب كرز بن جابر الفهري، وحمل لواءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كرز قد أغار على سرح المدينة -الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة- فاستاقه، وكان يرعى بالحمى، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ واديا يقال له: "سفوان" من ناحية بدر، وفاته كرز ولم يلحقه، فرجع إلى المدينة.


عن جابر رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط، وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه فركبه، ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن، فقال له: شأ، لعنك الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا اللاعن بعيره؟».

قال: أنا، يا رسول الله.

قال: «انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم».

وبواط: جبل من جبال جهينة، بقرب ينبع.


قيل لزيد بن أرقم: " كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة.

قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة.

قيل: فأيهم كانت أول؟ قال: العسيرة، أو العشير.

وقعت غزوة العشيرة قبل وقعة بدر، سلك النبي صلى الله عليه وسلم على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق.

فصلى عندها.
.
.

وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه.
.
.

واستقي له من ماء به يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيساره وسلك شعبة يقال لها: شعبة عبد الله.
.
.

ثم صب لليسار حتى هبط يليل فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، واستقى من بئر بالضبوعة، ثم سلك الفرش فرش ملل حتى لقي الطريق بصحيرات بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.


أخرج ابن عساكر عن الزهري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب من الحجاز يدعى (رابغ)، فانكفأ المشركون على المسلمين، فجاءهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ بسهامه، وكان أول من رمى في سبيل الله، وكان هذا أول قتال في الإسلام".


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسوله عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش، وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وكان رسول الله كتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم"، فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض.

فمضوا كلهم.

فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم أجمعوا على ملاقاتهم فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسيرين في الإسلام، وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا، فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217].


عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} [البقرة: 144]، فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.


في هذه السنة فرض صيام شهر رمضان، وقيل: إن فريضة صيام شهر رمضان كانت قبل غزوة بدر.


شرع الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر, وهي واجبة على كل مسلم حر أو عبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير من المسلمين قادر عليها.

والحكمة منها تطهير الصائم مما عسى أن يكون قد وقع فيه أثناء الصيام من لغو أو رفث، وإعانة للفقراء على إدخال السرور عليهم في يوم العيد.


كانت عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، زوجة يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، تعيب الإسلام وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحرض عليه.

وكانت تطرح المحايض في مسجد بني خطمة؛ فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها، فنذر عمير بن عدي لئن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة ليقتلنها، وقد فعل رضي الله عنه وأرضاه.

فلما رجع عمير وجد بنيها في جماعة يدفنونها.

فقالوا: يا عمير، أنت قتلتها؟ قال: "نعم، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم".

فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم، فكان أول من أسلم من بني خطمة عمير بن عدي، وهو الذي يدعى القارئ.


ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا من المسلمين لاعتراض قافلة قريش القادمة من الشام التي كان يرأسها أبو سفيان الذي علم بعد ذلك بخروج المسلمين، فأرسل إلى قريش يستنفرها لاستنقاذ تجارتهم كما غير طريقه لإنقاذ التجارة، ثم التقى المسلمون والمشركون عند ماء بدر، وهي مكان بين مكة والمدينة وهو أقرب إليها من مكة، وكان عدد المشركين يقارب الألف، وعدد المسلمين أكثر من ثلاثمائة، وبدأت المعركة بالمبارزة المشهورة، ثم بدأ القتال وكان شديدا، وقتل فيها صناديد قريش كأبي جهل، وأمية بن خلف، وغيرهما، حتى بلغ قتلاهم سبعون رجلا ومثلهم من الأسرى، وقتل أربعة عشر من المسلمين، وقيل: ستة عشر.

فكان النصر الكبير حليف المسلمين.

حيث نصرهم الله تعالى وأرسل ملائكة تقاتل معهم، أما الأسرى فأشار عمر بقتلهم، وأشار أبو بكر بفدائهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، ولكن الوحي نزل موافقا لرأي عمر، أما الغنائم فنزلت فيها سورة الأنفال.


هي رقية بنت سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وهي زوج عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وكانت رقية أولا عند عتبة بن أبي لهب، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبو لهب ابنه بطلاقها، فتزوجها عثمان وهاجر بها إلى الحبشة.

ولما ندب رسول الله الناس للخروج لاعتراض قافلة أبي سفيان أمر عثمان أن يبقى عند رقية يمرضها ويعتني بها، وكان هذا هو سبب تخلفه، وقد أسهم له النبي صلى الله عليه وسلم كما أسهم لمن حضر بدرا، ثم ما لبثت رقية في مرضها حتى توفيت رضي الله عنها.