عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " لَمَّا ظَهَرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ عَلَى الْيَمَنِ ، وَظَفَرَ بِالْحَبَشَةِ ، وَنَفَاهُمْ عَنْهَا ، - وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ - أَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ وَأَشْرَافُهَا وَشُعَرَاؤُهَا تُهَنِّئُهُ وَتَمْدَحُهُ ، فَأَتَاهُ وَفْدُ قُرَيْشٍ ، وَفِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَوُهَيْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فِي نَاسٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِصَنْعَاءَ ، وَهُوَ فِي رَأْسِ قَصْرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ غُمْدَانُ . قَالَ : فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَإِذَا الْمَلِكُ مُتَضَمِّخٌ بِالْعَبِيرِ يَنْطِفُ وَبِيصُ الْمِسْكِ مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَالْمَقَاوِلُ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ دَنَا مِنْهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْكَلَامِ ، فَقَالَ لَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ أَذِنَّا لَكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّكَ مَحَلًّا رَفِيعًا ، شَامِخًا مَنِيعًا ، وَأَنْبَتَكَ مَنْبَتًا طَابَتْ أَرُومَتُهُ ، وَغُذِّيَتْ جُرْثُومَتُهُ ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ ، فِي أَطْيَبِ مَوْطِنٍ ، وَأَكْرَمِ مَعْدِنٍ ، فَأَنْتَ - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - رَأْسُ الْعَرَبِ وَرَبِيعُهَا الَّذِي تَخْصِبُ بِهِ ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ رَأْسُ الْعَرَبِ الَّذِي لَهُ تَنْقَادُ ، وَعَمُودُهَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَادُ ، وَمَعْقِلُهَا الَّذِي تَلْجَأُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ ، سَلَفُكَ لَنَا خَيْرُ سَلَفٍ ، وَأَنْتَ لَنَا مِنْهُمْ خَيْرُ خَلَفٍ ، وَلَمْ يَهْلِكْ مَنْ أَنْتَ خَلَفُهُ ، وَلَمْ يَخْمَلْ ذِكْرُ مَنْ أَنْتَ سَلَفُهُ ، نَحْنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ ، أَشْخَصَنَا إِلَيْكَ الَّذِي أَبْهَجَنَا ، لِكَشْفِكَ الْكَرْبَ الَّذِي فَدَحَنَا ، فَنَحْنُ وَفْدُ التَّهْنِئَةِ ، لَا وَفْدُ الْمُرْزِئَةِ . فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : وَأَيُّهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ : أَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ : ابْنُ أُخْتِنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَدْنَاهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، وَنَاقَةً وَرَحْلًا ، وَمُسْتَنَاخًا سَهْلًا ، وَمُلْكًا رِبَحْلًا ، يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا ، قَدْ سَمِعَ الْمَلِكُ مَقَالَتَكُمْ ، وَعَرَفَ قَرَابَتَكُمْ ، وَقَبِلَ وَسِيلَتَكُمْ ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلَكُمُ الْكَرَامَةُ مَا أَقَمْتُمْ ، وَالْحِبَاءُ إِذَا ظَعَنْتُمْ ، انْهَضُوا إِلَى دَارِ الضِّيَافَةِ وَالْوُفُودِ ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْإِنْزَالِ ، فَأَقَامُوا شَهْرًا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِالِانْصِرَافِ ، ثُمَّ انْتَبَهَ لَهُمُ انْتِبَاهَةً ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَدْنَاهُ ، وَقَرَّبَ مَجْلِسَهُ ، وَاسْتَحْيَاهُ . ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ ، إِنِّي مُفَوِّضٌ إِلَيْكَ مِنْ سِرِّ عِلْمِي مَا لَوْ غَيْرُكَ يَكُونُ لَمْ أَبُحْ بِهِ ، وَلَكِنْ وَجَدْتُكَ مَعْدِنَهُ ، فَأَطْلَعْتُكَ طَلْعَهُ ، فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَطْوِيًّا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ وَالْعِلْمِ الْمَخْزُونِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا ، وَاحْتَجَبْنَاهُ دُونَ غَيْرِنَا خَبَرًا عَظِيمًا ، وَخَطَرًا جَسِيمًا ، فِيهِ شَرَفُ الْحَيَاةِ ، وَفَضِيلَةُ الْوَفَاةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وَلِرَهْطِكَ عَامَّةً ، وَلَكَ خَاصَّةً ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَثْلُكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ سَرَّ وَبَرَّ ، فَمَا هُوَ ؟ - فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ ، زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ ، قَالَ : إِذَا وُلِدَ بِتِهَامَةَ غُلَامٌ بِهِ عَلَامَةٌ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ ، وَلَكُمْ بِهِ الزَّعَامَةُ ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - لَقَدْ أُبْتَ بِخَيْرٍ مَا آبَ بِهِ وَافِدُ قَوْمٍ ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْمُلْكِ وَإِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ لَسَأَلْتُهُ مِنْ بِشَارَتِهِ إِيَّايَ مَا أَزْدَادُ بِهِ سُرُورًا . قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : هَذَا زَمَنُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ ، أَوْ قَدْ وُلِدَ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، يَمُوتُ أَبُوهُ ، وَأُمُّهُ ، وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مِرَارًا ، وَاللَّهُ بَاعِثُهُ جِهَارًا ، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَارًا يُعِزُّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ ، وَيُذِلُّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ ، وَيَضْرِبُ بِهِمُ النَّاسَ عَنْ عَرْضٍ ، وَيَسْتَبِيحُ بِهِمْ كَرَائِمَ الْأَرْضِ ، يَعْبُدُ الرَّحْمَنَ ، وَيَدْحَرُ الشَّيْطَانَ ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ ، وَيَكْسِرُ الْأَوْثَانَ ، قَوْلُهُ فَصْلٌ ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ . قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ عَزَّ جَارُكَ ، وَسَعِدَ جَدُّكَ ، وَعَلَا كَعْبُكَ ، وَنَمَا أَمْرُكَ ، وَطَالَ عُمْرُكَ ، وَدَامَ مُلْكُكَ ، فَهَلِ الْمَلِكُ سَارِّي بِإِفْصَاحٍ ، فَقَدْ أَوْضَحَ بَعْضَ الْإِيضَاحِ ؟ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبِ ، وَالْعَلَامَاتِ عَلَى النُّصُبِ ، إِنَّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَجَدُّهُ غَيْرَ كَذِبٍ قَالَ : فَخَرَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَاجِدًا ، فَقَالَ : ارْفَعْ رَأْسَكَ ، فَقَدْ ثَلُجَ صَدْرُكَ ، وَعَلَا أَمْرُكَ ، فَهَلْ أَحْسَسْتَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّهُ كَانَ لِيَ ابْنٌ ، وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَبًا ، وَعَلَيْهِ رَقِيقًا ، فَزَوَّجْتُهُ كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِي آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ ، فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا ، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ، وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، وَفِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَلَامَةٍ . قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : إِنَّ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ ، فَاحْتَفِظْ بِابْنِكَ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلًا ، وَاطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَدْخُلَهُمُ النَّفَاسَةُ ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ الرِّئَاسَةُ ، فَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ ، وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ ، وَهُمْ فَاعِلُونَ أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ ، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مُجْتَاحِي قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَسِرْتُ بِخَيْلِي وَرَجِلِي ، حَتَّى أُصَيِّرَ يَثْرِبَ دَارَ مُلْكِي ، فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ ، وَالْعِلْمِ السَّابِقِ ، أَنَّ بِيَثْرِبَ اسْتِحْكَامُ أَمْرِهِ ، وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ ، وَأَهْلُ نُصْرَتِهِ ، وَلَوْلَا أَنِّي أَقِيهِ مِنَ الْآفَاتِ ، وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ ، لَأَوْطَأْتُ أَسْنَانَ الْعَرَبِ كَعْبَهُ ، وَلَأَعْلَنْتُ عَلَى حَدَاثَةٍ مِنْ سِنِّهِ ذِكْرَهُ ، وَلَكِنِّي صَارِفٌ إِلَيْكَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بِمَنْ مَعَكَ ، ثُمَّ أَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، وَعَشَرَةِ أَعْبُدٍ ، وَعَشْرِ إِمَاءٍ ، وَعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ فِضَّةٍ ، وَخَمْسَةِ أَرْطَالٍ ذَهَبًا ، وَكَرْشٍ مَمْلُوءَةٍ عَنْبَرًا ، وَأَمَرَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ ، وَقَالَ لَهُ : إِذَا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ ، فَأْتِنِي بِخَبَرِهِ ، وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ ، فَهَلَكَ ابْنُ ذِي يَزِنَ قَبْلَ رَأْسِ الْحَوْلِ ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ : لَا يَغْبِطُنِي يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ الْمَلِكِ وَإِنْ كَثُرَ ، فَإِنَّهُ إِلَى نَفَادٍ ، وَلَكِنْ لِيَغْبِطُنِي بِمَا يَبْقَى لِي شَرَفُهُ وَذِكْرُهُ ، وَلِعَقِبِي مِنْ بَعْدِي ، وَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ : مَا ذَاكَ ؟ قَالَ : سَيُعْلَنُ ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ . "
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ، إِمْلَاءً سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ قَالَ : ثنا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّقِّيُّ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ : ثنا عَمْرُو بْنُ بُكَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْقَعْنَبِيُّ ، عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّائِيِّ ، عَنِ الْكَلْبِيِّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا ظَهَرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ عَلَى الْيَمَنِ ، وَظَفَرَ بِالْحَبَشَةِ ، وَنَفَاهُمْ عَنْهَا ، - وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ - أَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ وَأَشْرَافُهَا وَشُعَرَاؤُهَا تُهَنِّئُهُ وَتَمْدَحُهُ ، فَأَتَاهُ وَفْدُ قُرَيْشٍ ، وَفِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَوُهَيْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فِي نَاسٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِصَنْعَاءَ ، وَهُوَ فِي رَأْسِ قَصْرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ غُمْدَانُ . قَالَ : فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَإِذَا الْمَلِكُ مُتَضَمِّخٌ بِالْعَبِيرِ يَنْطِفُ وَبِيصُ الْمِسْكِ مِنْ مَفْرِقِ رَأْسِهِ ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَالْمَقَاوِلُ ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ دَنَا مِنْهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْكَلَامِ ، فَقَالَ لَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ أَذِنَّا لَكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّكَ مَحَلًّا رَفِيعًا ، شَامِخًا مَنِيعًا ، وَأَنْبَتَكَ مَنْبَتًا طَابَتْ أَرُومَتُهُ ، وَغُذِّيَتْ جُرْثُومَتُهُ ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ ، فِي أَطْيَبِ مَوْطِنٍ ، وَأَكْرَمِ مَعْدِنٍ ، فَأَنْتَ - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - رَأْسُ الْعَرَبِ وَرَبِيعُهَا الَّذِي تَخْصِبُ بِهِ ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ رَأْسُ الْعَرَبِ الَّذِي لَهُ تَنْقَادُ ، وَعَمُودُهَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَادُ ، وَمَعْقِلُهَا الَّذِي تَلْجَأُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ ، سَلَفُكَ لَنَا خَيْرُ سَلَفٍ ، وَأَنْتَ لَنَا مِنْهُمْ خَيْرُ خَلَفٍ ، وَلَمْ يَهْلِكْ مَنْ أَنْتَ خَلَفُهُ ، وَلَمْ يَخْمَلْ ذِكْرُ مَنْ أَنْتَ سَلَفُهُ ، نَحْنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ ، أَشْخَصَنَا إِلَيْكَ الَّذِي أَبْهَجَنَا ، لِكَشْفِكَ الْكَرْبَ الَّذِي فَدَحَنَا ، فَنَحْنُ وَفْدُ التَّهْنِئَةِ ، لَا وَفْدُ الْمُرْزِئَةِ . فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : وَأَيُّهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ : أَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ : ابْنُ أُخْتِنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَدْنَاهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، وَنَاقَةً وَرَحْلًا ، وَمُسْتَنَاخًا سَهْلًا ، وَمُلْكًا رِبَحْلًا ، يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا ، قَدْ سَمِعَ الْمَلِكُ مَقَالَتَكُمْ ، وَعَرَفَ قَرَابَتَكُمْ ، وَقَبِلَ وَسِيلَتَكُمْ ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَلَكُمُ الْكَرَامَةُ مَا أَقَمْتُمْ ، وَالْحِبَاءُ إِذَا ظَعَنْتُمْ ، انْهَضُوا إِلَى دَارِ الضِّيَافَةِ وَالْوُفُودِ ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِالْإِنْزَالِ ، فَأَقَامُوا شَهْرًا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِالِانْصِرَافِ ، ثُمَّ انْتَبَهَ لَهُمُ انْتِبَاهَةً ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَدْنَاهُ ، وَقَرَّبَ مَجْلِسَهُ ، وَاسْتَحْيَاهُ . ثُمَّ قَالَ : يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ ، إِنِّي مُفَوِّضٌ إِلَيْكَ مِنْ سِرِّ عِلْمِي مَا لَوْ غَيْرُكَ يَكُونُ لَمْ أَبُحْ بِهِ ، وَلَكِنْ وَجَدْتُكَ مَعْدِنَهُ ، فَأَطْلَعْتُكَ طَلْعَهُ ، فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَطْوِيًّا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ وَالْعِلْمِ الْمَخْزُونِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا ، وَاحْتَجَبْنَاهُ دُونَ غَيْرِنَا خَبَرًا عَظِيمًا ، وَخَطَرًا جَسِيمًا ، فِيهِ شَرَفُ الْحَيَاةِ ، وَفَضِيلَةُ الْوَفَاةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وَلِرَهْطِكَ عَامَّةً ، وَلَكَ خَاصَّةً ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَثْلُكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ سَرَّ وَبَرَّ ، فَمَا هُوَ ؟ - فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ ، زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ ، قَالَ : إِذَا وُلِدَ بِتِهَامَةَ غُلَامٌ بِهِ عَلَامَةٌ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ ، وَلَكُمْ بِهِ الزَّعَامَةُ ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - لَقَدْ أُبْتَ بِخَيْرٍ مَا آبَ بِهِ وَافِدُ قَوْمٍ ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْمُلْكِ وَإِعْظَامِهِ وَإِجْلَالِهِ لَسَأَلْتُهُ مِنْ بِشَارَتِهِ إِيَّايَ مَا أَزْدَادُ بِهِ سُرُورًا . قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : هَذَا زَمَنُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ ، أَوْ قَدْ وُلِدَ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، يَمُوتُ أَبُوهُ ، وَأُمُّهُ ، وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مِرَارًا ، وَاللَّهُ بَاعِثُهُ جِهَارًا ، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَارًا يُعِزُّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ ، وَيُذِلُّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ ، وَيَضْرِبُ بِهِمُ النَّاسَ عَنْ عَرْضٍ ، وَيَسْتَبِيحُ بِهِمْ كَرَائِمَ الْأَرْضِ ، يَعْبُدُ الرَّحْمَنَ ، وَيَدْحَرُ الشَّيْطَانَ ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ ، وَيَكْسِرُ الْأَوْثَانَ ، قَوْلُهُ فَصْلٌ ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ . قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَيُّهَا الْمَلِكُ عَزَّ جَارُكَ ، وَسَعِدَ جَدُّكَ ، وَعَلَا كَعْبُكَ ، وَنَمَا أَمْرُكَ ، وَطَالَ عُمْرُكَ ، وَدَامَ مُلْكُكَ ، فَهَلِ الْمَلِكُ سَارِّي بِإِفْصَاحٍ ، فَقَدْ أَوْضَحَ بَعْضَ الْإِيضَاحِ ؟ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبِ ، وَالْعَلَامَاتِ عَلَى النُّصُبِ ، إِنَّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَجَدُّهُ غَيْرَ كَذِبٍ قَالَ : فَخَرَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَاجِدًا ، فَقَالَ : ارْفَعْ رَأْسَكَ ، فَقَدْ ثَلُجَ صَدْرُكَ ، وَعَلَا أَمْرُكَ ، فَهَلْ أَحْسَسْتَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ ، إِنَّهُ كَانَ لِيَ ابْنٌ ، وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَبًا ، وَعَلَيْهِ رَقِيقًا ، فَزَوَّجْتُهُ كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِي آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ ، فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا ، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ، وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ ، وَفِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَلَامَةٍ . قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزِنَ : إِنَّ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ ، فَاحْتَفِظْ بِابْنِكَ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلًا ، وَاطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَدْخُلَهُمُ النَّفَاسَةُ ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ الرِّئَاسَةُ ، فَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ ، وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ ، وَهُمْ فَاعِلُونَ أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ ، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مُجْتَاحِي قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَسِرْتُ بِخَيْلِي وَرَجِلِي ، حَتَّى أُصَيِّرَ يَثْرِبَ دَارَ مُلْكِي ، فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ ، وَالْعِلْمِ السَّابِقِ ، أَنَّ بِيَثْرِبَ اسْتِحْكَامُ أَمْرِهِ ، وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ ، وَأَهْلُ نُصْرَتِهِ ، وَلَوْلَا أَنِّي أَقِيهِ مِنَ الْآفَاتِ ، وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ ، لَأَوْطَأْتُ أَسْنَانَ الْعَرَبِ كَعْبَهُ ، وَلَأَعْلَنْتُ عَلَى حَدَاثَةٍ مِنْ سِنِّهِ ذِكْرَهُ ، وَلَكِنِّي صَارِفٌ إِلَيْكَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بِمَنْ مَعَكَ ، ثُمَّ أَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ ، وَعَشَرَةِ أَعْبُدٍ ، وَعَشْرِ إِمَاءٍ ، وَعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ فِضَّةٍ ، وَخَمْسَةِ أَرْطَالٍ ذَهَبًا ، وَكَرْشٍ مَمْلُوءَةٍ عَنْبَرًا ، وَأَمَرَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ ، وَقَالَ لَهُ : إِذَا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ ، فَأْتِنِي بِخَبَرِهِ ، وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ ، فَهَلَكَ ابْنُ ذِي يَزِنَ قَبْلَ رَأْسِ الْحَوْلِ ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ : لَا يَغْبِطُنِي يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ الْمَلِكِ وَإِنْ كَثُرَ ، فَإِنَّهُ إِلَى نَفَادٍ ، وَلَكِنْ لِيَغْبِطُنِي بِمَا يَبْقَى لِي شَرَفُهُ وَذِكْرُهُ ، وَلِعَقِبِي مِنْ بَعْدِي ، وَكَانَ إِذَا قِيلَ لَهُ : مَا ذَاكَ ؟ قَالَ : سَيُعْلَنُ ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ .