قَالَ ذُو النُّونِ : " وُصِفَ لِي رَجُلٌ بِالْيَمَنِ قَدْ بَرَزَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَسَمَا عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ . وَذُكِرَ لِي بِاللُّبِّ وَالْحِكْمَةِ وَوُصِفَ لِي بِالتَّوَاضُعِ وَالرَّحْمَةِ . قَالَ : فَخَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا قَضَيْتُ نُسُكِي مَضَيْتُ إِلَيْهِ لِأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنْتَفِعَ بِمَوْعِظَتِهِ أَنَا وَنَاسٌ كَانُوا مَعِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَطْلُبُ . وَكَانَ مَعَنَا شَابٌّ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّالِحِينَ وَمَنْظَرُ الْخَائِفِينَ وَكَانَ مُصْفَرَّ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ، أَعْمَشَ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَمَشٍ ، نَاحِلَ الْجِسْمِ مِنْ غَيْرِ سَقَمٍ ، يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَيَأْنَسُ بِالْوَحْدَةِ ، تَرَاهُ أَبَدًا كَأَنَّهُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ قَدْ فَدَحَتْهُ نَائِبَةٌ . فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَبَدَأَ الشَّابُّ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَصَافِحْهُ فَأَبْدَى لَهُ الشَّيْخُ الْبِشْرَ وَالتَّرْحِيبَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا ، ثُمَّ بَدَأَ الشَّابُّ بِالْكَلَامِ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ قَدْ جَعَلَكَ طَبِيبًا لِسَقَامِ الْقُلُوبِ ، وَمُعَالِجًا لَأَوْجَاعِ الذُّنُوبِ ، وَبِي جُرْحٌ قَدْ فَعَلَ ، وَدَاءٌ قَدِ اسْتَكْمَلَ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَلَطَّفَ لِي بِبَعْضِ مَرَاحِمِكَ ، وَتُعَالِجُنِي بِرِفْقِكَ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : سَلْ مَا بَدَا لَكَ يَا فَتًى . فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَا عَلَامَةُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : أَنْ يُؤَمِّنَهُ خَوْفَهُ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ غَيْرِ خَوْفِهِ . ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَتَى يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ خَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ ؟ قَالَ : إِذَا أَنْزَلَ نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّقِيمِ ، فَهُوَ يَحْتَمِي مِنْ كُلِّ الطَّعَامِ مَخَافَةَ السَّقَامِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَضَضِ كُلِّ دَوَاءٍ مَخَافَةَ طُولِ الضَّنَا . فَصَاحَ الْفَتَى صَيْحَةً وَقَالَ : عَافَيْتَ فَأَبْلَغْتَ وَعَالَجْتَ فَشَفَيْتَ ، ثُمَّ بَقِيَ بَاهِتًا سَاعَةً لَا يُحِيرُ جَوَابًا حَتَّى ظَنَنْتُ رُوحَهُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ بَدَنِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، مَا عَلَامَةُ الْمُحِبِّ لِلَّهِ ؟ قَالَ لَهُ : حَبِيبِي إِنَّ دَرَجَةَ الْحُبِّ رَفِيعَةٌ ، قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَصِفَهَا لِي . قَالَ : إِنَّ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ شَقَّ لَهُمْ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ إِلَى عِزِّ جَلَالِ اللَّهِ ، فَصَارَتْ أَبْدَانُهُمْ دُنْيَاوِيَّةً ، وَأَرْوَاحُهُمْ حُجُبِيَّةً ، وَعُقُولُهُمْ سَمَاوِيَّةً ، تَسْرَحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ كَالْعِيَانِ وَتُشَاهِدُ مَلِكَ الْأُمُورِ بِالْيَقِينِ ، فعَبَدُوهُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِحُبِّهِمْ لَهُ لَا طَمَعًا فِي جَنَّةٍ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارٍ . قَالَ : فَشَهِقَ الْفَتَى شَهْقَةً وَصَاحَ صَيْحَةً كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ . قَالَ : فَانْكَبَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ يِلْثُمُهُ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا مَصْرَعُ الْخَائِفِينَ هَذِهِ دَرَجَةُ الْمُجْتَهِدِينَ هَذَا أَمَانُ الْمُتَّقِينَ "
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، ثنا نَصْرُ بْنُ شَافِعٍ الْمَقْدِسِيُّ الزَّاهِدُ ، ثنا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْإِخْمِيمِيُّ ، قَالَ : قَالَ ذُو النُّونِ : وُصِفَ لِي رَجُلٌ بِالْيَمَنِ قَدْ بَرَزَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَسَمَا عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ . وَذُكِرَ لِي بِاللُّبِّ وَالْحِكْمَةِ وَوُصِفَ لِي بِالتَّوَاضُعِ وَالرَّحْمَةِ . قَالَ : فَخَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا قَضَيْتُ نُسُكِي مَضَيْتُ إِلَيْهِ لِأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنْتَفِعَ بِمَوْعِظَتِهِ أَنَا وَنَاسٌ كَانُوا مَعِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَطْلُبُ . وَكَانَ مَعَنَا شَابٌّ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّالِحِينَ وَمَنْظَرُ الْخَائِفِينَ وَكَانَ مُصْفَرَّ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ، أَعْمَشَ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَمَشٍ ، نَاحِلَ الْجِسْمِ مِنْ غَيْرِ سَقَمٍ ، يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَيَأْنَسُ بِالْوَحْدَةِ ، تَرَاهُ أَبَدًا كَأَنَّهُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ قَدْ فَدَحَتْهُ نَائِبَةٌ . فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَبَدَأَ الشَّابُّ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَصَافِحْهُ فَأَبْدَى لَهُ الشَّيْخُ الْبِشْرَ وَالتَّرْحِيبَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا ، ثُمَّ بَدَأَ الشَّابُّ بِالْكَلَامِ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ قَدْ جَعَلَكَ طَبِيبًا لِسَقَامِ الْقُلُوبِ ، وَمُعَالِجًا لَأَوْجَاعِ الذُّنُوبِ ، وَبِي جُرْحٌ قَدْ فَعَلَ ، وَدَاءٌ قَدِ اسْتَكْمَلَ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَلَطَّفَ لِي بِبَعْضِ مَرَاحِمِكَ ، وَتُعَالِجُنِي بِرِفْقِكَ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : سَلْ مَا بَدَا لَكَ يَا فَتًى . فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَا عَلَامَةُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : أَنْ يُؤَمِّنَهُ خَوْفَهُ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ غَيْرِ خَوْفِهِ . ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَتَى يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ خَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ ؟ قَالَ : إِذَا أَنْزَلَ نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّقِيمِ ، فَهُوَ يَحْتَمِي مِنْ كُلِّ الطَّعَامِ مَخَافَةَ السَّقَامِ ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَضَضِ كُلِّ دَوَاءٍ مَخَافَةَ طُولِ الضَّنَا . فَصَاحَ الْفَتَى صَيْحَةً وَقَالَ : عَافَيْتَ فَأَبْلَغْتَ وَعَالَجْتَ فَشَفَيْتَ ، ثُمَّ بَقِيَ بَاهِتًا سَاعَةً لَا يُحِيرُ جَوَابًا حَتَّى ظَنَنْتُ رُوحَهُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ بَدَنِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، مَا عَلَامَةُ الْمُحِبِّ لِلَّهِ ؟ قَالَ لَهُ : حَبِيبِي إِنَّ دَرَجَةَ الْحُبِّ رَفِيعَةٌ ، قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَصِفَهَا لِي . قَالَ : إِنَّ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ شَقَّ لَهُمْ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ إِلَى عِزِّ جَلَالِ اللَّهِ ، فَصَارَتْ أَبْدَانُهُمْ دُنْيَاوِيَّةً ، وَأَرْوَاحُهُمْ حُجُبِيَّةً ، وَعُقُولُهُمْ سَمَاوِيَّةً ، تَسْرَحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ كَالْعِيَانِ وَتُشَاهِدُ مَلِكَ الْأُمُورِ بِالْيَقِينِ ، فعَبَدُوهُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِحُبِّهِمْ لَهُ لَا طَمَعًا فِي جَنَّةٍ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارٍ . قَالَ : فَشَهِقَ الْفَتَى شَهْقَةً وَصَاحَ صَيْحَةً كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ . قَالَ : فَانْكَبَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ يِلْثُمُهُ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا مَصْرَعُ الْخَائِفِينَ هَذِهِ دَرَجَةُ الْمُجْتَهِدِينَ هَذَا أَمَانُ الْمُتَّقِينَ