لَمَّا حُمِلَ ذُو النُّونِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ أَنْزَلَهُ فِي بَعْضِ الدُّورِ وَأَوْصَى بِهِ زُرَافَةَ . وَقَالَ : أَنَا إِذَا رَجَعْتُ غَدًا مِنْ رُكُوبِي فَأَخْرِجْ إِلَيَّ هَذَا الرَّجُلَ ، فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَوْصَانِي بِكَ ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَدِ مِنَ الرُّكُوبِ قَالَ لَهُ : انْظُرْ بِأَنْ تَسْتَقْبِلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّلَامِ ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ : سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ ذُو النُّونِ : " لَيْسَ هَكَذَا جَاءَنَا الْخَبَرُ ، إِنَّمَا جَاءَنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّ الرَّاكِبَ يُسَلِّمُ عَلَى الرَّاجِلِ " . قَالَ : فَتَبَسَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَبَدَأَهُ بِالسَّلَامِ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ زَاهِدُ أَهْلِ مِصْرَ ؟ قَالَ : " كَذَا يَقُولُونَ " . فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ : فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ كَلَامِ الزُّهَّادِ . قَالَ : فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْجَهْلَ عُلِّقَ بِنُكْتَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ للهِ عِبَادًا عَبُدُوهُ بِخَالِصٍ مِنَ السِّرِّ فَشَرَّفَهُمْ بِخَالِصٍ مِنْ شُكْرِهِ فَهُمُ الَّذِينَ تَمُرُّ صُحُفُهُمْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فُرَّغًا حَتَّى إِذَا صَارَتْ إِلَيْهِ مَلَأَهَا مِنْ سِرِّ مَا أَسَرُّوا إِلَيْهِ ، أَبْدَانُهُمْ دُنْيَوِيَّةٌ وَقُلُوبُهُمْ سَمَاوِيَّةٌ قَدِ احْتَوَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ كَأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْفُرَجِ وَأَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ لَمْ يُخْبِتُوا فِي رَبِيعِ الْبَاطِلِ وَلَمْ يَرْتَعُوا فِي مَصِيفِ الْآثَامِ ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ أَنْ يَرَاهُمْ يَثِبُونَ عَلَى حَبَائِلِ مَكْرِهِ هَيْبَةً مِنْهُمْ لَهُ وَإِجْلَالًا أَنْ يَرَاهُمْ يَبِيعُونَ أَخْلَاقَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدُومُ وَبِلَذَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ مَزْهُودَةٍ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أَجْلَسَهُمْ عَلَى كَرَاسِيِّ أَطْبَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدْوَاءِ وَالنَّظَرِ فِي مَنَابِتِ الدَّوَاءِ ، فَجَعَلَ تَلَامِذَتَهُمْ أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْبَصَرِ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنْ أَتَاكُمْ عَلِيلٌ مِنْ فَقْدِي فَدَاوُوهُ أَوْ مَرِيضٌ مِنْ تَذَكُّرِي فَأَدْنُوهُ ، أَوْ نَاسٍ لِنِعْمَتِي فَذَكِّرُوهُ ، أَوْ مُبَارِزٌ لِي بِالْمَعَاصِي فَنَابِذُوهُ ، أَوْ مُحِبٌّ لِي فَوَاصِلُوهُ ، يَا أَوْلِيَائِي فَلَكُمْ عَاتَبْتُ وَلَكُمْ خَاطَبْتُ وَمِنْكُمُ الْوَفَاءَ طَلَبْتُ ، لَا أُحِبُّ اسْتِخْدَامَ الْجَبَّارِينَ وَلَا تَوَلِّي الْمُتَكَبِّرِينَ وَلَا مُصَافَاةِ الْمُتْرَفِينَ ، يَا أَوْلِيَائِي وَأَحْبَابِي جَزَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْجَزَاءِ وَإِعْطَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْعَطَاءِ وَبَذْلِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْبَذْلِ ، وَفَضْلِي عَلَيْكُمْ أَوْفَرُ الْفَضْلِ ، وَمُعَامَلَتِي لَكُمْ أَوْفَى الْمُعَامَلَةِ وَمُطَالَبَتِي لَكُمْ أَشَدُّ مُطَالَبَةً ، وَأَنَا مُقَدِّسُ الْقُلُوبِ وَأَنَا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَوَسْوَاسِ الصُّدُورِ ، مَنْ أَرَادَكُمْ قَصَمْتُهُ وَمَنْ عَادَاكُمْ أَهْلَكْتُهُ " . ثُمَّ قَالَ ذُو النُّونِ : " بِحُبِّكَ وَرَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى بَحْرِ مَحَبَّتِهِ فَاغْتَرَفَتْ مِنْهُ رِيًّا مِنَ الشَّرَابِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ بِمَخَاطِرِ الْقُلُوبِ فَسَهُلَ عَلَيْهَا كُلُّ عَارِضٍ عَرَضَ لَهَا عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ ، فَوَاصَلَتِ الْأَعْضَاءُ الْمُبَادَرَةَ وَأَلِفَتِ الْجَوَارِحُ تِلْكَ الرَّاحَةَ ، فَهُمْ رَهَائِنُ أَشْغَالِ الْأَعْمَالِ ، قَدِ اقْتَلَعَتْهُمُ الرَّاحَةُ بِمَا كُلِّفُوا أَخْذَهُ عَنِ الِانْبِسَاطِ بِمَا لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهُ . قَدْ سَكَنَتْ لَهُمُ النُّفُوسُ وَرَضُوا بِالْفَقْرِ وَالْبُؤْسِ وَاطْمَأَنَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَلَى الدُّءُوبِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْحَرَكَاتِ ، وَظَعَنَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْمَطَاعِمِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَتَوَالَهُوا بِالْفِكْرَةِ ، وَاعْتَقَدُوا بِالصَّبْرِ ، وَأَخَذُوا بِالرِّضَا وَلَهَوْا عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَقَرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلْمَلِكِ الدَّيَّانِ وَرَضُوا بِهِ دُونَ كُلِّ رَقِيبٍ وَحَمِيمٍ فَخَشَعُوا لِهَيْبَتِهِ ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَلَمْ يُبَالُوا بِالْقِلَّةِ إِذَا خَلَّوْا بِأَقَلِّ بُكَاءٍ ، وَإِذَا عُومِلُوا فَإِخْوانُ حَيَاءٍ ، وَإِذَا كُلِّمُوا فَحُكَمَاءُ ، وَإِذَا سُئِلُوا فَعُلَمَاءُ ، وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِمْ فَحُلَمَاءُ ، فَلَوْ قَدْ رَأَيْتَهُمْ لَقُلْتَ عَذَارَى فِي الْخُدُورِ ، وَقَدْ تَحَرَّكَتْ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ فِي الصُّدُورِ بِحُسْنِ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ عَلَاها النُّورُ ، وَإِذَا كَشَفْتَ عَنِ الْقُلُوبِ رَأَيْتَ قُلُوبًا لَيِّنَةً مُنْكَسِرَةً ، وَبِالذِّكْرِ نَائِرَةً وَبِمُحَادَثَةِ الْمَحْبُوبِ عَامِرَةً ، لَا يَشْغَلُونَ قُلُوبَهُمْ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَمِيلُونَ إِلَى مَا دُونَهُ ، قَدْ مَلَأَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ صُدُورَهُمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ شَهْوَةً وَلَا بِغَيْرِ الْأَنِيسِ وَمُحَادَثَةِ اللَّهِ لَذَّةً ، إِخْوَانُ صِدْقٍ وَأَصْحَابُ حَيَاءٍ وَوَفَاءٍ وَتُقًى وَوَرِعٍ وَإِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ وَدِينٍ ، قَطَعُوا الْأَوْدِيَةَ بِغَيْرِ مَفَاوِزَ ، وَاسْتَقَلُّوا الْوَفَاءَ بِالصَّبْرِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ ، وَاسْتَعَانُوا بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَأَوْضَحَ لَهُمُ الْحُجَّةَ ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ فَرَفَضُوا طَرِيقَ الْمَهَالِكِ وَسَلَكُوا خَيْرَ الْمَسَالِكِ وَدَلَّهُمْ ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَوْتَادُ الَّذِينَ بِهِمْ تُوهَبُ الْمَوَاهِبُ ، وَبِهِمْ تُفْتَحُ الْأَبْوَابُ ، وَبِهِمْ يَنْشَأُ السَّحَابُ ، وَبِهِمْ يُدْفَعُ العَذَابُ ، وَبِهِمْ يَسْتَقِي الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ "
حَدَّثَنَا أَبِي ، ثنا أَحْمَدُ ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الزُّبَيْدِيُّ ، قَالَ : لَمَّا حُمِلَ ذُو النُّونِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ أَنْزَلَهُ فِي بَعْضِ الدُّورِ وَأَوْصَى بِهِ زُرَافَةَ . وَقَالَ : أَنَا إِذَا رَجَعْتُ غَدًا مِنْ رُكُوبِي فَأَخْرِجْ إِلَيَّ هَذَا الرَّجُلَ ، فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَوْصَانِي بِكَ ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَدِ مِنَ الرُّكُوبِ قَالَ لَهُ : انْظُرْ بِأَنْ تَسْتَقْبِلَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّلَامِ ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ : سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ ذُو النُّونِ : لَيْسَ هَكَذَا جَاءَنَا الْخَبَرُ ، إِنَّمَا جَاءَنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّ الرَّاكِبَ يُسَلِّمُ عَلَى الرَّاجِلِ . قَالَ : فَتَبَسَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَبَدَأَهُ بِالسَّلَامِ ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ زَاهِدُ أَهْلِ مِصْرَ ؟ قَالَ : كَذَا يَقُولُونَ . فَقَالَ لَهُ زُرَافَةُ : فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ كَلَامِ الزُّهَّادِ . قَالَ : فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْجَهْلَ عُلِّقَ بِنُكْتَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ للهِ عِبَادًا عَبُدُوهُ بِخَالِصٍ مِنَ السِّرِّ فَشَرَّفَهُمْ بِخَالِصٍ مِنْ شُكْرِهِ فَهُمُ الَّذِينَ تَمُرُّ صُحُفُهُمْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فُرَّغًا حَتَّى إِذَا صَارَتْ إِلَيْهِ مَلَأَهَا مِنْ سِرِّ مَا أَسَرُّوا إِلَيْهِ ، أَبْدَانُهُمْ دُنْيَوِيَّةٌ وَقُلُوبُهُمْ سَمَاوِيَّةٌ قَدِ احْتَوَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ كَأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ تِلْكَ الْفُرَجِ وَأَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ لَمْ يُخْبِتُوا فِي رَبِيعِ الْبَاطِلِ وَلَمْ يَرْتَعُوا فِي مَصِيفِ الْآثَامِ ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ أَنْ يَرَاهُمْ يَثِبُونَ عَلَى حَبَائِلِ مَكْرِهِ هَيْبَةً مِنْهُمْ لَهُ وَإِجْلَالًا أَنْ يَرَاهُمْ يَبِيعُونَ أَخْلَاقَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدُومُ وَبِلَذَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ مَزْهُودَةٍ ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أَجْلَسَهُمْ عَلَى كَرَاسِيِّ أَطْبَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدْوَاءِ وَالنَّظَرِ فِي مَنَابِتِ الدَّوَاءِ ، فَجَعَلَ تَلَامِذَتَهُمْ أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْبَصَرِ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنْ أَتَاكُمْ عَلِيلٌ مِنْ فَقْدِي فَدَاوُوهُ أَوْ مَرِيضٌ مِنْ تَذَكُّرِي فَأَدْنُوهُ ، أَوْ نَاسٍ لِنِعْمَتِي فَذَكِّرُوهُ ، أَوْ مُبَارِزٌ لِي بِالْمَعَاصِي فَنَابِذُوهُ ، أَوْ مُحِبٌّ لِي فَوَاصِلُوهُ ، يَا أَوْلِيَائِي فَلَكُمْ عَاتَبْتُ وَلَكُمْ خَاطَبْتُ وَمِنْكُمُ الْوَفَاءَ طَلَبْتُ ، لَا أُحِبُّ اسْتِخْدَامَ الْجَبَّارِينَ وَلَا تَوَلِّي الْمُتَكَبِّرِينَ وَلَا مُصَافَاةِ الْمُتْرَفِينَ ، يَا أَوْلِيَائِي وَأَحْبَابِي جَزَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْجَزَاءِ وَإِعْطَائِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْعَطَاءِ وَبَذْلِي لَكُمْ أَفْضَلُ الْبَذْلِ ، وَفَضْلِي عَلَيْكُمْ أَوْفَرُ الْفَضْلِ ، وَمُعَامَلَتِي لَكُمْ أَوْفَى الْمُعَامَلَةِ وَمُطَالَبَتِي لَكُمْ أَشَدُّ مُطَالَبَةً ، وَأَنَا مُقَدِّسُ الْقُلُوبِ وَأَنَا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَوَسْوَاسِ الصُّدُورِ ، مَنْ أَرَادَكُمْ قَصَمْتُهُ وَمَنْ عَادَاكُمْ أَهْلَكْتُهُ . ثُمَّ قَالَ ذُو النُّونِ : بِحُبِّكَ وَرَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى بَحْرِ مَحَبَّتِهِ فَاغْتَرَفَتْ مِنْهُ رِيًّا مِنَ الشَّرَابِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ بِمَخَاطِرِ الْقُلُوبِ فَسَهُلَ عَلَيْهَا كُلُّ عَارِضٍ عَرَضَ لَهَا عِنْدَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ ، فَوَاصَلَتِ الْأَعْضَاءُ الْمُبَادَرَةَ وَأَلِفَتِ الْجَوَارِحُ تِلْكَ الرَّاحَةَ ، فَهُمْ رَهَائِنُ أَشْغَالِ الْأَعْمَالِ ، قَدِ اقْتَلَعَتْهُمُ الرَّاحَةُ بِمَا كُلِّفُوا أَخْذَهُ عَنِ الِانْبِسَاطِ بِمَا لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهُ . قَدْ سَكَنَتْ لَهُمُ النُّفُوسُ وَرَضُوا بِالْفَقْرِ وَالْبُؤْسِ وَاطْمَأَنَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَلَى الدُّءُوبِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْحَرَكَاتِ ، وَظَعَنَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْمَطَاعِمِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَتَوَالَهُوا بِالْفِكْرَةِ ، وَاعْتَقَدُوا بِالصَّبْرِ ، وَأَخَذُوا بِالرِّضَا وَلَهَوْا عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَقَرُّوا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلْمَلِكِ الدَّيَّانِ وَرَضُوا بِهِ دُونَ كُلِّ رَقِيبٍ وَحَمِيمٍ فَخَشَعُوا لِهَيْبَتِهِ ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَلَمْ يُبَالُوا بِالْقِلَّةِ إِذَا خَلَّوْا بِأَقَلِّ بُكَاءٍ ، وَإِذَا عُومِلُوا فَإِخْوانُ حَيَاءٍ ، وَإِذَا كُلِّمُوا فَحُكَمَاءُ ، وَإِذَا سُئِلُوا فَعُلَمَاءُ ، وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِمْ فَحُلَمَاءُ ، فَلَوْ قَدْ رَأَيْتَهُمْ لَقُلْتَ عَذَارَى فِي الْخُدُورِ ، وَقَدْ تَحَرَّكَتْ لَهُمُ الْمَحَبَّةُ فِي الصُّدُورِ بِحُسْنِ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ عَلَاها النُّورُ ، وَإِذَا كَشَفْتَ عَنِ الْقُلُوبِ رَأَيْتَ قُلُوبًا لَيِّنَةً مُنْكَسِرَةً ، وَبِالذِّكْرِ نَائِرَةً وَبِمُحَادَثَةِ الْمَحْبُوبِ عَامِرَةً ، لَا يَشْغَلُونَ قُلُوبَهُمْ بِغَيْرِهِ ، وَلَا يَمِيلُونَ إِلَى مَا دُونَهُ ، قَدْ مَلَأَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ صُدُورَهُمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ شَهْوَةً وَلَا بِغَيْرِ الْأَنِيسِ وَمُحَادَثَةِ اللَّهِ لَذَّةً ، إِخْوَانُ صِدْقٍ وَأَصْحَابُ حَيَاءٍ وَوَفَاءٍ وَتُقًى وَوَرِعٍ وَإِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ وَدِينٍ ، قَطَعُوا الْأَوْدِيَةَ بِغَيْرِ مَفَاوِزَ ، وَاسْتَقَلُّوا الْوَفَاءَ بِالصَّبْرِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ ، وَاسْتَعَانُوا بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَأَوْضَحَ لَهُمُ الْحُجَّةَ ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ فَرَفَضُوا طَرِيقَ الْمَهَالِكِ وَسَلَكُوا خَيْرَ الْمَسَالِكِ وَدَلَّهُمْ ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَوْتَادُ الَّذِينَ بِهِمْ تُوهَبُ الْمَوَاهِبُ ، وَبِهِمْ تُفْتَحُ الْأَبْوَابُ ، وَبِهِمْ يَنْشَأُ السَّحَابُ ، وَبِهِمْ يُدْفَعُ العَذَابُ ، وَبِهِمْ يَسْتَقِي الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ