ثنا أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٌ ابْنُهُ وَوَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ : أَنْ وَجِّهْ إِلَيَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِنَّ عِنْدَكَ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَوَجَّهَهُ بِحَاجِبِهِ مُظَفَّرٍ وَحَضَرَ مَعَهُ صَاحِبُ الْبَرِيدِ ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْكَلْبِيِّ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ مُظَفَّرٌ : يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عِنْدَكَ طَلِبَتَهُ ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ قَدْ نَامَ النَّاسُ فَدَفَعَ الْبَابَ وَكَانَ عَلَى أَبِي إِزَارٌ فَفَتَحَ لَهُمُ الْبَابَ وَقَعَدَ عَلَى بَابِهِ وَمَعَهُ النِّسَاءُ ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، قَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَإِنِّي لَأَرَى طَاعَتَهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْأَثَرَةِ ، وَإِنِّي أَسْتَأَسِفُ عَنْ تَأَخُّرِي عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَجَّهَ إِلَى أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ : الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ إِلَى جُمُعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَإِلَّا نُنْزِلُ بِكَ مَا نَزَلَ بِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي إِسْحَاقَ . ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ : قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُحَلِّفَكَ مَا عِنْدَكَ طَلِبَتُهُ فَتَحْلِفُ ، قَالَ : إِنِ اسْتَحْلَفْتَنِي حَلَفْتُ ، فَأَحْلَفَهُ بِاللَّهِ وَبِالطَّلَاقِ مَا عِنْدَكَ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَأَنَّهُمْ أَوْمَأُوا إِلَى أَنَّ عِنْدَهُ عَلَوِيًّا ، ثُمَّ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ أُفَتِّشَ مَنْزِلَكَ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَكُنْتُ حَاضِرًا فَقَالَ : وَمُنْزِلَ ابْنِكَ . فَقَامَ مُظَفَّرٌ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا فَدَخَلَا فَفَتَّشَا الْبَيْتَ ثُمَّ فَتَّشَتِ الِامْرَأَتَانِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ دَخَلُوا مَنْزِلِي فَفَتَّشُوهُ وَأَدْلَوْا شَمْعَةً فِي الْبِئْرِ فَنَظَرُوا وَوَجَّهُوا نِسْوَةً فَفَتَّشُوا الْحَرِيمَ وَخَرَجُوا ، وَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَرَدَ كِتَابُ عَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ بَرَاءَتُكَ مِمَّا قُذِفْتَ بِهِ ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْبِدَعِ قَدْ مَدُّوا أَعْنَاقَهُمْ فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْهُمْ بِكَ ، وَقَدْ وَجَّهَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْقُوبَ الْمَعْرُوفُ بِقَوْصِرَةَ وَمَعَهُ جَائِزَةٌ وَيَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَسْتَعْقِبَنِي وَتَرُدَّ الْجَائِزَةَ ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ وَرَدَ مِنَ الْغَدِ يَعْقُوبُ فَدَخَلَ إِلَى أَبِي فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : قَدْ صَحَّ نَقَاءُ سَاحَتِكَ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ وَأَتَبَرَّكَ بِدُعَائِكَ وَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِكَ ، وَأَخْرَجَ بَدْرَةً فِيهَا صُرَّةٌ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَالْبَاقِي دَرَاهِمُ صِحَاحٌ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ شَدَّهَا يَعْقُوبُ ، وَقَالَ : أَعُودُ غَدًا حَتَّى أَنْظُرَ عَلَامَ تَعْزِمُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، وَانْصَرَفَ . فَجِئْتُ بِإِجَانَةٍ خَضْرَاءَ كَفَأْتُهَا عَلَى الْبَدْرَةِ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ ، قَالَ : يَا صَالِحُ خُذْ هَذِهِ فَصَيِّرْهَا عِنْدَكَ فَصَيَّرْتُهَا عِنْدَ رَأْسِي فَوْقَ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ إِذَا هُوَ يُنَادِي يَا صَالِحُ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا صَالِحُ مَا نِمْتُ لَيْلَتِي هَذِهِ فَقُلْتُ : لِمَ ، فَجَعَلْ يَبْكِي ، وَقَالَ : سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، قَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ أَنْ أُفَرِّقَ هَذَا الشَّيْءَ إِذَا أَصْبَحْتُ . قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ . فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْبَزَّارِ وَالْمَشَايِخُ ، فَقَالَ : جِئْنِي يَا صَالِحُ بِالْمِيزَانِ ، فَقَالَ : وَجِّهُوا إِلَى أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، ثُمَّ قَالَ : وَجِّهْ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يُفَرَّقَ فِي نَاحِيَتِهِ وَإِلَى فُلَانٍ ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا وَنَفَضَ الْكَيْسَ وَنَحْنُ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ . فَجَاءَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَعْطِنِي دِرْهَمًا فَنَظَرَ إِلَيَّ فَأَخْرَجْتُ قِطْعَةً أَعْطَيْتُهُ وَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِالْكَيْسِ ، قَالَ : عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مِنْكَ ، مَا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ وَإِنَّمَا قُوتُهُ رَغِيفٌ ، قَالَ : فَقَالَ لِي صَدَقْتَ يَا عَلِيٌّ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ خَرَجَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلًا وَمَعَنَا حُرَّاسٌ مَعَهُمُ النَّفَّاطَاتُ فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ ، قَالَ لِي يَا صَالِحُ أَمَعَكَ دَرَاهِمُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : أَعْطِهِمْ . فَأَعْطَيْتُهُمْ دِرْهَمًا ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا جَعَلَ يَعْقُوبُ يَسِيرُ مَعَهُ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أُرِيدُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْكَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَكَتَ . فَقَالَ : إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنِي أَنَّ الْفَرَايِضِيَّ قَالَ لَهُ أَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحْمَدَ يُعِيدُ مَا لِي ، فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْفِي اللَّهُ ، فَغَضِبَ يَعْقُوبُ ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ ، فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَسْأَلُهُ أَنْ يُطْلِقَ لِي كَلِمَةً أُخْبِرُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَفْعَلُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَقَصَّرَ أَبِي فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْعَسْكَرِ ، وَقَالَ : تَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَصَلَّيْتُ بِهِ يَوْمًا الْعَصْرَ فَقَالَ لِي : طَوَيْتَ بِنَا الْعَصْرَ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ مِقْدَارَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِ فِي الْعَسْكَرِ فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ ، قَالَ لَنَا يَعْقُوبُ : أَقِيمُوا ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ بِمَا عَمِلَ ، فَدَخَلْنَا الْعَسْكَرَ وَأَبِي مُنَكِّسٌ الرَّأْسَ ، وَرَأْسُهُ مُغَطًّى ، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ : اكْشِفْ عَنْ رَأْسَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ . فَكَشَفَ ثُمَّ جَاءَ وَصِيفٌ يُرِيدُ الدَّارَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَجَمْعِهِمْ قَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا جَازَ فَجَاءَ ابْنُ هَرْثَمَةَ ، فَقَالَ : الْأَمِيرُ يُقْرِئُكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ الْأَعْدَاءَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، قَدْ عَلِمْتُ مَا كَانَ حَالُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَكَلَّمَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَمَضَى يَحْيَى . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : أُنْزِلَ أَبِي دَارَ إِيتَاحَ فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ ، فَقَالَ : قَدْ أَمَرَ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ مَكَانَ الَّتِي فَرَّقْتَهَا ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِذَلِكَ فَيَغْتَمَّ . ثُمَّ جَاءَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُكْثِرُ ذِكْرَكَ وَيَقُولُ تُقِيمُ هَاهُنَا تُحَدِّثُ ، فَقَالَ : أَنَا ضَعِيفٌ ، ثُمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى بَعْضِ أَسْنَانِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ بَعْضَ أَسْنَانِي تَتَحَرَّكُ وَمَا أَخْبَرْتُ بِذَلِكَ وَلَدِي ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ : مَا تَقُولُ فِي بَهِيمَتَيْنِ انْتَطَحَتَا فَعَقَرَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَسَقَطَتْ فَذُبِحَ ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَ أَطْرَفَ بِعَيْنِهِ وَمَصَعَ بِذَنَبِهِ وَسَالَ دَمُهُ يُؤْكَلُ ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ صَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَصِيرَ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْطَعَ لَهُ سَوَادًا وَطَيْلَسَانًا وَقَلَنْسُوَةً فَأَيُّ قَلَنْسُوَةٍ يَلْبَسُ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَأَيْتُهُ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُصَيِّرَ لَكَ مَرْتَبَةً فِي أَعْلَى ، وَيَصِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حِجْرِكَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى قَرَابَاتِكُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَرَّقَهَا عَلَيْكُمْ . ثُمَّ عَادَ يَحْيَى مِنَ الْغَدِ وَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَرْكَبُ ، فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ . فَقَالُوا : اسْتَخِرِ اللَّهَ فَلَبِسَ إِزَارَهُ وَخُفَّيْهِ ، وَقَدْ كَانَ خُفُّهُ قَدْ أُتِيَ عَلَيْهِ ، لَهُ عِنْدَهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَرْقُوعًا بِرِقَاعٍ عِدَّةٍ ، فَأَشَارَ يَحْيَى إِلَيَّ بِلُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ فَقُلْتُ : مَا لَهُ قَلَنْسُوَةٌ ، فَقَالَ : كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَاسِرًا وَيَحْيَى قَائِمٌ . فَطَلَبْنَا لَهُ دَابَّةً يَرْكَبُ عَلَيْهَا فَقَامَ يَحْيَى يُصَلِّي فَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ ، وَقَالَ : {{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }} ثُمَّ رَكِبَ بَغْلَ بَعْضِ التُّجَّارِ فَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أُدْخِلَ دَارَ الْمُعْتَزِّ فَأُجْلِسَ فِي بَيْتِ الدِّهْلِيزِ ، ثُمَّ جَاءَ يَحْيَى فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ وَرَفَعَ السِّتْرَ ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ وَكَانَ الْمُعْتَزُّ قَاعِدًا عَلَى دُكَّانٍ فِي الدَّارِ وَقَدْ كَانَ يَحْيَى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ يَحْيَى : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ بِكَ لِيُسَرَّ بِقُرْبِكَ وَيَصِيرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حِجْرِكَ . فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْخَدَمِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ كَانَ قَاعِدًا وَرَاءَ السِّتْرِ ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِأُمِّهِ : يَا أُمَّهْ قَدْ أَنَارِتِ الدَّارُ ، ثُمَّ جَاءَ خَادِمٌ بِمِنْدِيلٍ فَأَخَذَ يَحْيَى الْمِنْدِيلَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَبْطَنَةً فِيهَا قَمِيصٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ الْقَمِيصِ وَالْمَبْطَنَةُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ يَدَهُ الْيمْنَى وَكَذَا الْيُسْرَى ، وَهُوَ لَا يُحَرِّكُ يَدَهُ ثُمَّ أَخَذَ قَلَنْسُوَةً فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَأَلْبَسَهُ طَيْلَسَانًا وَلَحَفَهُ بِهِ وَلَمْ يَجِيئُوا بِخُفٍّ فَبَقِيَ الْخُفُّ عَلَيْهِ ثُمَّ صُرِفَ وَقَدْ كَانُوا تَحَدَّثُوا أَنَّهُ يَخْلَعُ عَلَيْهِ سَوَادًا فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الدَّارِ نَزَعَ الثِّيَابَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَقَالَ : قَدْ سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، مَا أَحْسَبُنِي سَلِمْتُ مِنْ دُخُولِي عَلَى هَذَا الْغُلَامِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجِبُ عَلَيَّ نُصْحُهُ مِنْ وَقْتِ أَنْ تَقَعَ عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَى أَنْ أَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ . ثُمَّ قَالَ : يَا صَالِحُ وَجِّهْ بِهَذِهِ الثِّيَابِ إِلَى بَغْدَادَ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا وَلَا يَشْتَرِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَوَجَّهْتُ بِهَا إِلَى يَعْقُوبَ بْنِ التَخْتَكَانِ فَبَاعَهَا وَفَرَّقَ ثَمَنَهَا وَبَقِيَتْ عِنْدِي الْقَلَنْسُوَةُ ، ثُمَّ أَخْبَرْنَاهُ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي هُوَ فِيهَا كَانَتْ لِأَيْتَامٍ فَقَالَ : اكْتُبْ رُقْعَةً إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ يَسْتَعْفِي لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، فَكَتَبْنَا رُقْعَةً فَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يُعْفَى مِنْهَا ، وَوَجَّهَ إِلَى قَوْمٍ لِيَخْرُجُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَسَأَلَ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ دَارٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَ إِلَيْهَا ، وَأُجْرِي لَنَا مَائِدَةُ وَبَلَحٌ ، وَضُرِبَ الْخَيْشُ وَفُرِشَ الطَّرِيُّ ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْشَ وَالطَّرِيَّ نَحَّى نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى مَضْربَةٍ لَهُ . وَاشْتَكَتْ عَيْنَهُ ثُمَّ بَرِئَتْ ، فَقَالَ لِي : أَلَا تَعْجَبْ كَانَتْ عَيْنِي تَشْتَكِي فَتَمْكُثُ حِينًا حَتَّى تَبْرَأَ ثُمَّ بَرَأَتْ فِي سُرْعَةٍ ، وَجَعَلَ يُوَاصِلُ يُفْطِرُ كُلَّ ثَلَاثٍ عَلَى تَمْرٍ وَسَوِيقٍ ، فَمَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُفْطِرُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ لَيْلَةً وَلَيْلَةً لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى رَغِيفٍ ، فَكَانَ إِذَا جِيءَ بِالْمَائِدَةِ تُوضَعُ فِي الدِّهْلِيزِ لِكَيْلَا يَرَاهَا فَيَأْكُلُ مَنْ حَضَرَ ، فَكَانَ إِذَا أَجْهَدَهُ الْحَرُّ تُبَلُّ لَهُ خِرْقَةٌ فَيَضَعُهَا عَلَى صَدْرِهِ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ ابْنُ مَاسَوَيْهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَا أَمِيلُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ وَمَا بِكَ عِلَّةٌ إِلَّا الضَّعْفَ وَقِلَّةَ الْبِرِّ . فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَاسَوَيْهِ : إِنَّا رُبَّمَا أَمَرْنَا عِيَالَنَا بِأَكْلِ الدُّهْنِ وَالْخَلِّ فَإِنَّهُ يُلَيِّنُ وَجَعَلَ بِالشَّيْءِ لَيَشْرَبَهُ فَيَصُبُّهُ ، وَقَطَعَ لَهُ يَحْيَى دُرَّاعَةً وَطَيْلَسَانًا سَوَادًا وَجَعَلَ يَعْقُوبُ وَعَتَّابٌ يَصِيرَانِ إِلَيْهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولُ فِي ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فِي مَالِهِ ؟ فَلَا يُجِيبُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ ، وَجَعَلَ يَعْقُوبُ وَعَتَّابٌ يُخْبِرَانِهِ بِمَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ أُحْدِرَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ بِبَيْعِ ضِيَاعِهِ ، وَكَانَ رُبَّمَا صَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى وَهُوَ يُصَلِّي فَيَجْلِسُ فِي الدِّهْلِيزِ حَتَّى يَفْرُغَ وَيَحْيَى وَعَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ فَيَنْتَزِعُ سَيْفَهُ وَقَلَنْسُوَتَهُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يُشْتَرَى لَنَا دَارٌ فَقَالَ : يَا صَالِحُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : لَئِنْ أَقْرَرْتَ لَهُمْ بِشِرَاءِ ذَلِكَ لَتَكُونَنَّ الْقَطِيعَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تُصَيِّرُوا هَذَا الْبَلَدَ لِي مَأْوًى وَمَسْكَنًا فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُ شِرَاءَ الدَّارِ حَتَّى انْدَفَعَ وَصَارَ إِلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ ، فَقَالَ أُعْطِيكَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَكَانَ الْمَائِدَةِ ، فَقُلْتُ : لَا أَفْعَلُ ، وَجَعَلَتْ رُسُلُ الْمُتَوَكِّلِ تَأْتِيهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ خَبَرِهِ ، فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ ، فَيَسْكُتُ ، فَإِذَا خَرَجُوا قَالَ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَرَانِي ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ حُجْرَةٌ صَغِيرَةٌ فِيهَا بَيْتَانَ ، فَقَالَ : أَدْخِلُونِي تِلْكَ الْحُجْرَةَ وَلَا تُسْرِجُوا سِرَاجًا . فَأَدْخَلْنَاهُ إِلَيْهَا فَجَاءَهُ يَعْقُوبُ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ ، وَيَقُولُ : انْظُرِ الْيَوْمَ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيَّ فِيهِ أَيَّ يَوْمٍ هُوَ حَتَّى أَعْرِفَهُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ . فَقَالَ : يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ خَالٍ ، وَخَرَجَ يَعْقُوبُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ ، فَقَالَ : الْبُشْرَى يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ قَدْ أَعْفَيْتُكَ عَنْ لُبْسِ السَّوَادِ ، وَالرُّكُوبِ إِلَيَّ وَإِلَى وَلَاةِ الْعُهُودِ وَإِلَى الدَّارِ فَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الْقُطْنَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الصُّوفَ . فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ : إِنَّ لِي ابْنَا وَأَنَا بِهِ مُعْجَبٌ وَلَهُ فِي قَلْبِي مَوْقِعٌ فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَهُ بِأَحَادِيثَ فَسَكَتَ ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ : أَتُرَاهُ لَا يَرَى مَا أَنَا فِيهِ . وَكَانَ يَخْتِمُ مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ ، فَإِذَا خَتَمَ دَعَا فَيَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةُ الْجُمُعَةِ وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلَى أَخِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَلَمَّا أَنْ خَتَمَ جَعَلَ يَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ جَعَلَ يَقُولُ : أَسْتَخِيرُ اللَّهَ مِرَارًا ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ : مَا تُرِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }} إِنِّي لَا أُحَدِّثُ حَدِيثًا تَامًّا أَبَدًا حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ وَلَا أَسْتَثْنِي مِنْكُمْ أَحَدًا . فَخَرَجْنَا وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ ، فَقُلْنَا لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَأُخْبِرَ الْمُتَوَكِّلُ ، بِذَلِكَ وَقَالَ : إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ أُحَدِّثَ فَيَكُونَ هَذَا الْبَلَدُ حَبْسِي ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الَّذِينَ أَقَامُوا بِهَذَا الْبَلَدِ لِمَا أَعْطَوْا وَأَمَرُوا فَحَدِّثُوا وَكَانَ يخْبِرُونَهُ فَيَتَوَجَّهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ الْمَوْتَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ وَإِنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي هَذَا وَذَاكَ ، إِنَّ هَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيَا وَكَانَ ذَاكَ فِتْنَةُ الدِّينِ . ثُمَّ جَعَلَ يَضُمُّ أَصَابِعَ يَدِهِ وَيَقُولُ : لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فِي يَدِي لَأَرْسَلْتُهَا ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَصَابِعَهُ ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يُؤْمَرُ لَنَا بِالْمَالِ ، فَيَقُولُ يُوصَلُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَعْلَمُ شَيْخُهُمْ فَيَغْتَمُّ مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَمَا يَمْنَعُهُمْ ، وَقَالُوا لِلْمُتَوَكِّلِ : إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فُرُشِكَ وَيُحَرِّمُ الَّذِي تَشْرَبُ . فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ نُشِرَ لِيَ الْمُعْتَصِمُ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ إِنِّي انْحَدَرْتُ إِلَى بَغْدَادَ وَخَلَّفْتُ عَبْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ قَدْ قَدِمَ وَجَاءَ بِثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ فَقُلْتُ : مَا جَاءَ بِكَ ؟ قَالَ : قَالَ لِي انْحَدِرْ وَقُلْ لِصَالِحٍ لَا تَخْرُجْ ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ أَفْتَى ، وَاللَّهِ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَخْرَجْتُ مِنْكُمْ وَاحِدًا مَعِي لَوْلَا مَكَانُكُمْ لِمَنْ كَانَ تُوضَعُ هَذِهِ الْمَائِدَةُ وَلِمَنْ كَانَ يُفْرَشُ هَذَا الْفُرُشُ وَيُجْرَى هَذَا الْإِجْرَاءُ ؟ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ بِمَا قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ كُلَّ مَكْرُوهٍ وَمَحْذُورٍ ، الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الْكِتَابِ إِلَيْكَ وَالَّذِي قُلْتَ لِعَبْدِ اللَّهِ لَا يَأْتِينِي مِنْكُمْ أَحَدٌ ، رُبَّمَا أَنْ يَنْقَطِعَ ذِكْرِي وَنُحْمَلُ ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ هَاهُنَا فَشَا ذِكْرِي ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْكَ قَوْمٌ يَنْقُلُونَ أَخْبَارَنَا ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا خَيْرًا ، وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ إِنْ أَقَمْتَ فَلَا تَأْتِ أَنْتَ وَلَا أَخُوكَ فَهُوَ رِضَائِي فَلَا تَجْعَلْ فِي نَفْسِكَ إِلَّا خَيْرًا ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ وَرَدَ إِلَيَّ كِتَابٌ آخَرُ بِخَطِّهِ يَذْكُرُ فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ السُّوءَ بِرَحْمَتِهِ ، كِتَابِي إِلَيْكَ وَأَنَا فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٍ أَسْأَلُهُ إِتْمَامَهَا وَالْعَوْنَ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهَا ، قَدِ انْفَكَّتْ عَنَّا عُقْدَةٌ إِنَّمَا كَانَ حَبْسُ مَنْ هَاهُنَا لِمَا أُعْطُوا فَقَبِلُوا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا فِي الْحَدِّ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ ، وَحَدَّثُوا وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَذِهِ كَانَتْ قُيوُدُهُمْ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ شَرِّهِمْ وَيُخَلِّصَنَا فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ لَوْ قَرَّبْتُمُونِي بِأَمْوَالِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ فَهَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِلَّذِي أَنَا فِيهِ فَلَا يَكْبُرْ عَلَيْكَ مَا أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ فَالْزَمُوا بُيوتَكُمْ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَلِّصَنِي وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . ثُمَّ وَرَدَ غَيْرُ كِتَابٍ إِلَيَّ بِخَطِّهِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَسْكَرِ رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفُرُشُ وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ، مَا أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ وَيَحْمَدُوهُ فِي الْحَامِدِينَ ، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأُوصِي إِنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رِبًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا ، وَأُوصِي : أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِبُورَانَ عَلَيَّ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ ، فَيُقْضَى مَا لَهُ عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى أُعْطِيَ وَلَدِي صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ وَفَاءِ مَا عَلَيَّ لِابْنِ مُحَمَّدٍ . شَهِدَ أَبُو يُوسُفَ وَصَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ سَأَلَ أَبِي أَنْ يُحَوَّلَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي اكْتُرِيَتْ لَهُ ، فَاكْتَرَى هُوَ دَارًا وَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا ، فَسَأَلَ الْمُتَوَكِّلُ عَنْهُ فَقِيلَ إِنَّهُ عَلِيلٌ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي قُرْبِي وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ يَا عُبَيْدَ اللَّهِ ، احْمِلْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ يُنْفُقُهَا ، وَقَالَ لِسَعِيدٍ : تُهَيِّئُ لَهُ حَرَاقَةٌ يَنْحَدِرُ فِيهَا فَجَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ ، فَقَالَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَذِنَ لَكَ وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ ، فَقَالَ قَدْ أَعْفَانِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : أَنَا رَفِيقٌ عَلَيَّ الْبَرْدُ وَالطُّهْرُ ارْفُقْ بِي . فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِرِّهِ وَتَعَاهُدِهِ ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَلَمَّا انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ وَمَكَثَ قَلِيلًا قَالَ لِي : يَا صَالِحُ : قُلْتُ : لَبَّيْكَ قَالَ : أُحِبُّ أَنْ تَدَعَ هَذَا الرِّزْقَ فَلَا تَأْخُذُهُ وَلَا تُوَكِّلْ فِيهِ أَحَدًا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَأْخُذُونَهُ بِسَبَبِي فَسَكَتَ ، فَقَالَ : مَا لَكَ ؟ فَقُلْتُ : أَكْرَهُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا بِلِسَانِي وَأُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فَأَكُونَ قَدْ كَذَبْتُكَ وَنَافَقْتُكَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالًا مِنِّي وَلَا أَعْذَرُ ، وَقَدْ كُنْتُ أَشْكُو إِلَيْكَ فَتَقُولُ أَمْرُكَ مُنْعَقِدٌ بِأَمْرِي وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُحِلَّ عَنِّي هَذِهِ الْعُقْدَةَ . ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : وَقَدْ كُنْتَ تَدْعُو لِي فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ . قَالَ : وَلَا تَفْعَلْ ، قُلْتُ : لَا قَالَ : قُمْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْبَابِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَتَلَقَّانِي عَبْدُ اللَّهِ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : مَا أَقُولُ ؟ قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ . فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِي ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ . فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ نَحْوَ مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيَّ ، فَلَقِيَنَا عَمُّهُ فَقَالَ : لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقُولُوا لَهُ وَمَا عِلْمُهُ إِذَا أَخَذْتُمْ شَيْئًا ؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَسْتُ آخُذُ شَيْئًا مِنْ هَذَا . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَجَرَنَا وَسَدَّ الْأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَتَحَامَى مَنْزِلَنَا أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْءٌ ، وَقَدْ كَانَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ ، قَالُوا : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ ، ثنا أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٌ ابْنُهُ وَوَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ : أَنْ وَجِّهْ إِلَيَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِنَّ عِنْدَكَ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَوَجَّهَهُ بِحَاجِبِهِ مُظَفَّرٍ وَحَضَرَ مَعَهُ صَاحِبُ الْبَرِيدِ ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْكَلْبِيِّ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ مُظَفَّرٌ : يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عِنْدَكَ طَلِبَتَهُ ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ قَدْ نَامَ النَّاسُ فَدَفَعَ الْبَابَ وَكَانَ عَلَى أَبِي إِزَارٌ فَفَتَحَ لَهُمُ الْبَابَ وَقَعَدَ عَلَى بَابِهِ وَمَعَهُ النِّسَاءُ ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، قَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَإِنِّي لَأَرَى طَاعَتَهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْأَثَرَةِ ، وَإِنِّي أَسْتَأَسِفُ عَنْ تَأَخُّرِي عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَجَّهَ إِلَى أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ : الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ إِلَى جُمُعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَإِلَّا نُنْزِلُ بِكَ مَا نَزَلَ بِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي إِسْحَاقَ . ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ : قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُحَلِّفَكَ مَا عِنْدَكَ طَلِبَتُهُ فَتَحْلِفُ ، قَالَ : إِنِ اسْتَحْلَفْتَنِي حَلَفْتُ ، فَأَحْلَفَهُ بِاللَّهِ وَبِالطَّلَاقِ مَا عِنْدَكَ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَأَنَّهُمْ أَوْمَأُوا إِلَى أَنَّ عِنْدَهُ عَلَوِيًّا ، ثُمَّ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ أُفَتِّشَ مَنْزِلَكَ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَكُنْتُ حَاضِرًا فَقَالَ : وَمُنْزِلَ ابْنِكَ . فَقَامَ مُظَفَّرٌ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا فَدَخَلَا فَفَتَّشَا الْبَيْتَ ثُمَّ فَتَّشَتِ الِامْرَأَتَانِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ دَخَلُوا مَنْزِلِي فَفَتَّشُوهُ وَأَدْلَوْا شَمْعَةً فِي الْبِئْرِ فَنَظَرُوا وَوَجَّهُوا نِسْوَةً فَفَتَّشُوا الْحَرِيمَ وَخَرَجُوا ، وَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَرَدَ كِتَابُ عَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ بَرَاءَتُكَ مِمَّا قُذِفْتَ بِهِ ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْبِدَعِ قَدْ مَدُّوا أَعْنَاقَهُمْ فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْهُمْ بِكَ ، وَقَدْ وَجَّهَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْقُوبَ الْمَعْرُوفُ بِقَوْصِرَةَ وَمَعَهُ جَائِزَةٌ وَيَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَسْتَعْقِبَنِي وَتَرُدَّ الْجَائِزَةَ ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ وَرَدَ مِنَ الْغَدِ يَعْقُوبُ فَدَخَلَ إِلَى أَبِي فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : قَدْ صَحَّ نَقَاءُ سَاحَتِكَ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ وَأَتَبَرَّكَ بِدُعَائِكَ وَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِكَ ، وَأَخْرَجَ بَدْرَةً فِيهَا صُرَّةٌ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَالْبَاقِي دَرَاهِمُ صِحَاحٌ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ شَدَّهَا يَعْقُوبُ ، وَقَالَ : أَعُودُ غَدًا حَتَّى أَنْظُرَ عَلَامَ تَعْزِمُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، وَانْصَرَفَ . فَجِئْتُ بِإِجَانَةٍ خَضْرَاءَ كَفَأْتُهَا عَلَى الْبَدْرَةِ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ ، قَالَ : يَا صَالِحُ خُذْ هَذِهِ فَصَيِّرْهَا عِنْدَكَ فَصَيَّرْتُهَا عِنْدَ رَأْسِي فَوْقَ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ إِذَا هُوَ يُنَادِي يَا صَالِحُ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا صَالِحُ مَا نِمْتُ لَيْلَتِي هَذِهِ فَقُلْتُ : لِمَ ، فَجَعَلْ يَبْكِي ، وَقَالَ : سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، قَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ أَنْ أُفَرِّقَ هَذَا الشَّيْءَ إِذَا أَصْبَحْتُ . قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ . فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْبَزَّارِ وَالْمَشَايِخُ ، فَقَالَ : جِئْنِي يَا صَالِحُ بِالْمِيزَانِ ، فَقَالَ : وَجِّهُوا إِلَى أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، ثُمَّ قَالَ : وَجِّهْ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يُفَرَّقَ فِي نَاحِيَتِهِ وَإِلَى فُلَانٍ ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا وَنَفَضَ الْكَيْسَ وَنَحْنُ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ . فَجَاءَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَعْطِنِي دِرْهَمًا فَنَظَرَ إِلَيَّ فَأَخْرَجْتُ قِطْعَةً أَعْطَيْتُهُ وَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِالْكَيْسِ ، قَالَ : عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ : فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مِنْكَ ، مَا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ وَإِنَّمَا قُوتُهُ رَغِيفٌ ، قَالَ : فَقَالَ لِي صَدَقْتَ يَا عَلِيٌّ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ خَرَجَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلًا وَمَعَنَا حُرَّاسٌ مَعَهُمُ النَّفَّاطَاتُ فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ ، قَالَ لِي يَا صَالِحُ أَمَعَكَ دَرَاهِمُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : أَعْطِهِمْ . فَأَعْطَيْتُهُمْ دِرْهَمًا ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا جَعَلَ يَعْقُوبُ يَسِيرُ مَعَهُ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أُرِيدُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْكَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَكَتَ . فَقَالَ : إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنِي أَنَّ الْفَرَايِضِيَّ قَالَ لَهُ أَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَحْمَدَ يُعِيدُ مَا لِي ، فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْفِي اللَّهُ ، فَغَضِبَ يَعْقُوبُ ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ ، فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَسْأَلُهُ أَنْ يُطْلِقَ لِي كَلِمَةً أُخْبِرُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَفْعَلُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَقَصَّرَ أَبِي فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْعَسْكَرِ ، وَقَالَ : تَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَصَلَّيْتُ بِهِ يَوْمًا الْعَصْرَ فَقَالَ لِي : طَوَيْتَ بِنَا الْعَصْرَ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ مِقْدَارَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِ فِي الْعَسْكَرِ فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ ، قَالَ لَنَا يَعْقُوبُ : أَقِيمُوا ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ بِمَا عَمِلَ ، فَدَخَلْنَا الْعَسْكَرَ وَأَبِي مُنَكِّسٌ الرَّأْسَ ، وَرَأْسُهُ مُغَطًّى ، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ : اكْشِفْ عَنْ رَأْسَكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ . فَكَشَفَ ثُمَّ جَاءَ وَصِيفٌ يُرِيدُ الدَّارَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَجَمْعِهِمْ قَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا جَازَ فَجَاءَ ابْنُ هَرْثَمَةَ ، فَقَالَ : الْأَمِيرُ يُقْرِئُكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ الْأَعْدَاءَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، قَدْ عَلِمْتُ مَا كَانَ حَالُ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَكَلَّمَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَمَضَى يَحْيَى . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : أُنْزِلَ أَبِي دَارَ إِيتَاحَ فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ ، فَقَالَ : قَدْ أَمَرَ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ مَكَانَ الَّتِي فَرَّقْتَهَا ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِذَلِكَ فَيَغْتَمَّ . ثُمَّ جَاءَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُكْثِرُ ذِكْرَكَ وَيَقُولُ تُقِيمُ هَاهُنَا تُحَدِّثُ ، فَقَالَ : أَنَا ضَعِيفٌ ، ثُمَّ وَضَعَ إِصْبَعَهُ عَلَى بَعْضِ أَسْنَانِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ بَعْضَ أَسْنَانِي تَتَحَرَّكُ وَمَا أَخْبَرْتُ بِذَلِكَ وَلَدِي ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ : مَا تَقُولُ فِي بَهِيمَتَيْنِ انْتَطَحَتَا فَعَقَرَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَسَقَطَتْ فَذُبِحَ ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَ أَطْرَفَ بِعَيْنِهِ وَمَصَعَ بِذَنَبِهِ وَسَالَ دَمُهُ يُؤْكَلُ ، قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ صَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَصِيرَ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْطَعَ لَهُ سَوَادًا وَطَيْلَسَانًا وَقَلَنْسُوَةً فَأَيُّ قَلَنْسُوَةٍ يَلْبَسُ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَأَيْتُهُ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُصَيِّرَ لَكَ مَرْتَبَةً فِي أَعْلَى ، وَيَصِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حِجْرِكَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى قَرَابَاتِكُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَرَّقَهَا عَلَيْكُمْ . ثُمَّ عَادَ يَحْيَى مِنَ الْغَدِ وَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَرْكَبُ ، فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ . فَقَالُوا : اسْتَخِرِ اللَّهَ فَلَبِسَ إِزَارَهُ وَخُفَّيْهِ ، وَقَدْ كَانَ خُفُّهُ قَدْ أُتِيَ عَلَيْهِ ، لَهُ عِنْدَهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَرْقُوعًا بِرِقَاعٍ عِدَّةٍ ، فَأَشَارَ يَحْيَى إِلَيَّ بِلُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ فَقُلْتُ : مَا لَهُ قَلَنْسُوَةٌ ، فَقَالَ : كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَاسِرًا وَيَحْيَى قَائِمٌ . فَطَلَبْنَا لَهُ دَابَّةً يَرْكَبُ عَلَيْهَا فَقَامَ يَحْيَى يُصَلِّي فَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ ، وَقَالَ : {{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }} ثُمَّ رَكِبَ بَغْلَ بَعْضِ التُّجَّارِ فَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أُدْخِلَ دَارَ الْمُعْتَزِّ فَأُجْلِسَ فِي بَيْتِ الدِّهْلِيزِ ، ثُمَّ جَاءَ يَحْيَى فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ وَرَفَعَ السِّتْرَ ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ وَكَانَ الْمُعْتَزُّ قَاعِدًا عَلَى دُكَّانٍ فِي الدَّارِ وَقَدْ كَانَ يَحْيَى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ يَحْيَى : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ بِكَ لِيُسَرَّ بِقُرْبِكَ وَيَصِيرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي حِجْرِكَ . فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْخَدَمِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ كَانَ قَاعِدًا وَرَاءَ السِّتْرِ ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِأُمِّهِ : يَا أُمَّهْ قَدْ أَنَارِتِ الدَّارُ ، ثُمَّ جَاءَ خَادِمٌ بِمِنْدِيلٍ فَأَخَذَ يَحْيَى الْمِنْدِيلَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَبْطَنَةً فِيهَا قَمِيصٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ الْقَمِيصِ وَالْمَبْطَنَةُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ يَدَهُ الْيمْنَى وَكَذَا الْيُسْرَى ، وَهُوَ لَا يُحَرِّكُ يَدَهُ ثُمَّ أَخَذَ قَلَنْسُوَةً فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَأَلْبَسَهُ طَيْلَسَانًا وَلَحَفَهُ بِهِ وَلَمْ يَجِيئُوا بِخُفٍّ فَبَقِيَ الْخُفُّ عَلَيْهِ ثُمَّ صُرِفَ وَقَدْ كَانُوا تَحَدَّثُوا أَنَّهُ يَخْلَعُ عَلَيْهِ سَوَادًا فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الدَّارِ نَزَعَ الثِّيَابَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَقَالَ : قَدْ سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، مَا أَحْسَبُنِي سَلِمْتُ مِنْ دُخُولِي عَلَى هَذَا الْغُلَامِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجِبُ عَلَيَّ نُصْحُهُ مِنْ وَقْتِ أَنْ تَقَعَ عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَى أَنْ أَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ . ثُمَّ قَالَ : يَا صَالِحُ وَجِّهْ بِهَذِهِ الثِّيَابِ إِلَى بَغْدَادَ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا وَلَا يَشْتَرِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَوَجَّهْتُ بِهَا إِلَى يَعْقُوبَ بْنِ التَخْتَكَانِ فَبَاعَهَا وَفَرَّقَ ثَمَنَهَا وَبَقِيَتْ عِنْدِي الْقَلَنْسُوَةُ ، ثُمَّ أَخْبَرْنَاهُ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي هُوَ فِيهَا كَانَتْ لِأَيْتَامٍ فَقَالَ : اكْتُبْ رُقْعَةً إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ يَسْتَعْفِي لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، فَكَتَبْنَا رُقْعَةً فَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يُعْفَى مِنْهَا ، وَوَجَّهَ إِلَى قَوْمٍ لِيَخْرُجُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَسَأَلَ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ دَارٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَ إِلَيْهَا ، وَأُجْرِي لَنَا مَائِدَةُ وَبَلَحٌ ، وَضُرِبَ الْخَيْشُ وَفُرِشَ الطَّرِيُّ ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْشَ وَالطَّرِيَّ نَحَّى نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى مَضْربَةٍ لَهُ . وَاشْتَكَتْ عَيْنَهُ ثُمَّ بَرِئَتْ ، فَقَالَ لِي : أَلَا تَعْجَبْ كَانَتْ عَيْنِي تَشْتَكِي فَتَمْكُثُ حِينًا حَتَّى تَبْرَأَ ثُمَّ بَرَأَتْ فِي سُرْعَةٍ ، وَجَعَلَ يُوَاصِلُ يُفْطِرُ كُلَّ ثَلَاثٍ عَلَى تَمْرٍ وَسَوِيقٍ ، فَمَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُفْطِرُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ لَيْلَةً وَلَيْلَةً لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى رَغِيفٍ ، فَكَانَ إِذَا جِيءَ بِالْمَائِدَةِ تُوضَعُ فِي الدِّهْلِيزِ لِكَيْلَا يَرَاهَا فَيَأْكُلُ مَنْ حَضَرَ ، فَكَانَ إِذَا أَجْهَدَهُ الْحَرُّ تُبَلُّ لَهُ خِرْقَةٌ فَيَضَعُهَا عَلَى صَدْرِهِ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ ابْنُ مَاسَوَيْهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَا أَمِيلُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ وَمَا بِكَ عِلَّةٌ إِلَّا الضَّعْفَ وَقِلَّةَ الْبِرِّ . فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَاسَوَيْهِ : إِنَّا رُبَّمَا أَمَرْنَا عِيَالَنَا بِأَكْلِ الدُّهْنِ وَالْخَلِّ فَإِنَّهُ يُلَيِّنُ وَجَعَلَ بِالشَّيْءِ لَيَشْرَبَهُ فَيَصُبُّهُ ، وَقَطَعَ لَهُ يَحْيَى دُرَّاعَةً وَطَيْلَسَانًا سَوَادًا وَجَعَلَ يَعْقُوبُ وَعَتَّابٌ يَصِيرَانِ إِلَيْهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولُ فِي ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فِي مَالِهِ ؟ فَلَا يُجِيبُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ ، وَجَعَلَ يَعْقُوبُ وَعَتَّابٌ يُخْبِرَانِهِ بِمَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ أُحْدِرَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ بِبَيْعِ ضِيَاعِهِ ، وَكَانَ رُبَّمَا صَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى وَهُوَ يُصَلِّي فَيَجْلِسُ فِي الدِّهْلِيزِ حَتَّى يَفْرُغَ وَيَحْيَى وَعَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ فَيَنْتَزِعُ سَيْفَهُ وَقَلَنْسُوَتَهُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ أَنْ يُشْتَرَى لَنَا دَارٌ فَقَالَ : يَا صَالِحُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : لَئِنْ أَقْرَرْتَ لَهُمْ بِشِرَاءِ ذَلِكَ لَتَكُونَنَّ الْقَطِيعَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تُصَيِّرُوا هَذَا الْبَلَدَ لِي مَأْوًى وَمَسْكَنًا فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُ شِرَاءَ الدَّارِ حَتَّى انْدَفَعَ وَصَارَ إِلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ ، فَقَالَ أُعْطِيكَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَكَانَ الْمَائِدَةِ ، فَقُلْتُ : لَا أَفْعَلُ ، وَجَعَلَتْ رُسُلُ الْمُتَوَكِّلِ تَأْتِيهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ خَبَرِهِ ، فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ ، فَيَسْكُتُ ، فَإِذَا خَرَجُوا قَالَ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَرَانِي ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ حُجْرَةٌ صَغِيرَةٌ فِيهَا بَيْتَانَ ، فَقَالَ : أَدْخِلُونِي تِلْكَ الْحُجْرَةَ وَلَا تُسْرِجُوا سِرَاجًا . فَأَدْخَلْنَاهُ إِلَيْهَا فَجَاءَهُ يَعْقُوبُ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ ، وَيَقُولُ : انْظُرِ الْيَوْمَ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيَّ فِيهِ أَيَّ يَوْمٍ هُوَ حَتَّى أَعْرِفَهُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ . فَقَالَ : يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمٌ خَالٍ ، وَخَرَجَ يَعْقُوبُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ ، فَقَالَ : الْبُشْرَى يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامُ وَيَقُولُ قَدْ أَعْفَيْتُكَ عَنْ لُبْسِ السَّوَادِ ، وَالرُّكُوبِ إِلَيَّ وَإِلَى وَلَاةِ الْعُهُودِ وَإِلَى الدَّارِ فَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الْقُطْنَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الصُّوفَ . فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ : إِنَّ لِي ابْنَا وَأَنَا بِهِ مُعْجَبٌ وَلَهُ فِي قَلْبِي مَوْقِعٌ فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَهُ بِأَحَادِيثَ فَسَكَتَ ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ : أَتُرَاهُ لَا يَرَى مَا أَنَا فِيهِ . وَكَانَ يَخْتِمُ مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ ، فَإِذَا خَتَمَ دَعَا فَيَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةُ الْجُمُعَةِ وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلَى أَخِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَلَمَّا أَنْ خَتَمَ جَعَلَ يَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ جَعَلَ يَقُولُ : أَسْتَخِيرُ اللَّهَ مِرَارًا ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ : مَا تُرِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }} إِنِّي لَا أُحَدِّثُ حَدِيثًا تَامًّا أَبَدًا حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ وَلَا أَسْتَثْنِي مِنْكُمْ أَحَدًا . فَخَرَجْنَا وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ ، فَقُلْنَا لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَأُخْبِرَ الْمُتَوَكِّلُ ، بِذَلِكَ وَقَالَ : إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ أُحَدِّثَ فَيَكُونَ هَذَا الْبَلَدُ حَبْسِي ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الَّذِينَ أَقَامُوا بِهَذَا الْبَلَدِ لِمَا أَعْطَوْا وَأَمَرُوا فَحَدِّثُوا وَكَانَ يخْبِرُونَهُ فَيَتَوَجَّهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ الْمَوْتَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ وَإِنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي هَذَا وَذَاكَ ، إِنَّ هَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيَا وَكَانَ ذَاكَ فِتْنَةُ الدِّينِ . ثُمَّ جَعَلَ يَضُمُّ أَصَابِعَ يَدِهِ وَيَقُولُ : لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فِي يَدِي لَأَرْسَلْتُهَا ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَصَابِعَهُ ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يُؤْمَرُ لَنَا بِالْمَالِ ، فَيَقُولُ يُوصَلُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَعْلَمُ شَيْخُهُمْ فَيَغْتَمُّ مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَمَا يَمْنَعُهُمْ ، وَقَالُوا لِلْمُتَوَكِّلِ : إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فُرُشِكَ وَيُحَرِّمُ الَّذِي تَشْرَبُ . فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ نُشِرَ لِيَ الْمُعْتَصِمُ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ إِنِّي انْحَدَرْتُ إِلَى بَغْدَادَ وَخَلَّفْتُ عَبْدَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ قَدْ قَدِمَ وَجَاءَ بِثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ فَقُلْتُ : مَا جَاءَ بِكَ ؟ قَالَ : قَالَ لِي انْحَدِرْ وَقُلْ لِصَالِحٍ لَا تَخْرُجْ ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ أَفْتَى ، وَاللَّهِ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَخْرَجْتُ مِنْكُمْ وَاحِدًا مَعِي لَوْلَا مَكَانُكُمْ لِمَنْ كَانَ تُوضَعُ هَذِهِ الْمَائِدَةُ وَلِمَنْ كَانَ يُفْرَشُ هَذَا الْفُرُشُ وَيُجْرَى هَذَا الْإِجْرَاءُ ؟ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ بِمَا قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ كُلَّ مَكْرُوهٍ وَمَحْذُورٍ ، الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الْكِتَابِ إِلَيْكَ وَالَّذِي قُلْتَ لِعَبْدِ اللَّهِ لَا يَأْتِينِي مِنْكُمْ أَحَدٌ ، رُبَّمَا أَنْ يَنْقَطِعَ ذِكْرِي وَنُحْمَلُ ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ هَاهُنَا فَشَا ذِكْرِي ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْكَ قَوْمٌ يَنْقُلُونَ أَخْبَارَنَا ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا خَيْرًا ، وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ إِنْ أَقَمْتَ فَلَا تَأْتِ أَنْتَ وَلَا أَخُوكَ فَهُوَ رِضَائِي فَلَا تَجْعَلْ فِي نَفْسِكَ إِلَّا خَيْرًا ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ وَرَدَ إِلَيَّ كِتَابٌ آخَرُ بِخَطِّهِ يَذْكُرُ فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ السُّوءَ بِرَحْمَتِهِ ، كِتَابِي إِلَيْكَ وَأَنَا فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٍ أَسْأَلُهُ إِتْمَامَهَا وَالْعَوْنَ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهَا ، قَدِ انْفَكَّتْ عَنَّا عُقْدَةٌ إِنَّمَا كَانَ حَبْسُ مَنْ هَاهُنَا لِمَا أُعْطُوا فَقَبِلُوا وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا فِي الْحَدِّ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ ، وَحَدَّثُوا وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَذِهِ كَانَتْ قُيوُدُهُمْ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ شَرِّهِمْ وَيُخَلِّصَنَا فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ لَوْ قَرَّبْتُمُونِي بِأَمْوَالِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ فَهَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِلَّذِي أَنَا فِيهِ فَلَا يَكْبُرْ عَلَيْكَ مَا أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ فَالْزَمُوا بُيوتَكُمْ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَلِّصَنِي وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . ثُمَّ وَرَدَ غَيْرُ كِتَابٍ إِلَيَّ بِخَطِّهِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَسْكَرِ رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفُرُشُ وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ، مَا أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ وَيَحْمَدُوهُ فِي الْحَامِدِينَ ، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأُوصِي إِنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رِبًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَبِيًّا ، وَأُوصِي : أَنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِبُورَانَ عَلَيَّ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ ، فَيُقْضَى مَا لَهُ عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى أُعْطِيَ وَلَدِي صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ وَفَاءِ مَا عَلَيَّ لِابْنِ مُحَمَّدٍ . شَهِدَ أَبُو يُوسُفَ وَصَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ . قَالَ أَبُو الْفَضْلِ : ثُمَّ سَأَلَ أَبِي أَنْ يُحَوَّلَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي اكْتُرِيَتْ لَهُ ، فَاكْتَرَى هُوَ دَارًا وَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا ، فَسَأَلَ الْمُتَوَكِّلُ عَنْهُ فَقِيلَ إِنَّهُ عَلِيلٌ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي قُرْبِي وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ يَا عُبَيْدَ اللَّهِ ، احْمِلْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ يُنْفُقُهَا ، وَقَالَ لِسَعِيدٍ : تُهَيِّئُ لَهُ حَرَاقَةٌ يَنْحَدِرُ فِيهَا فَجَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ، فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ ، فَقَالَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَذِنَ لَكَ وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ ، فَقَالَ قَدْ أَعْفَانِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : أَنَا رَفِيقٌ عَلَيَّ الْبَرْدُ وَالطُّهْرُ ارْفُقْ بِي . فَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِرِّهِ وَتَعَاهُدِهِ ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَلَمَّا انْحَدَرَ إِلَى بَغْدَادَ وَمَكَثَ قَلِيلًا قَالَ لِي : يَا صَالِحُ : قُلْتُ : لَبَّيْكَ قَالَ : أُحِبُّ أَنْ تَدَعَ هَذَا الرِّزْقَ فَلَا تَأْخُذُهُ وَلَا تُوَكِّلْ فِيهِ أَحَدًا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَأْخُذُونَهُ بِسَبَبِي فَسَكَتَ ، فَقَالَ : مَا لَكَ ؟ فَقُلْتُ : أَكْرَهُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا بِلِسَانِي وَأُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فَأَكُونَ قَدْ كَذَبْتُكَ وَنَافَقْتُكَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالًا مِنِّي وَلَا أَعْذَرُ ، وَقَدْ كُنْتُ أَشْكُو إِلَيْكَ فَتَقُولُ أَمْرُكَ مُنْعَقِدٌ بِأَمْرِي وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُحِلَّ عَنِّي هَذِهِ الْعُقْدَةَ . ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : وَقَدْ كُنْتَ تَدْعُو لِي فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ . قَالَ : وَلَا تَفْعَلْ ، قُلْتُ : لَا قَالَ : قُمْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْبَابِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَتَلَقَّانِي عَبْدُ اللَّهِ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : مَا أَقُولُ ؟ قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ . فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِي ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ . فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ نَحْوَ مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيَّ ، فَلَقِيَنَا عَمُّهُ فَقَالَ : لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقُولُوا لَهُ وَمَا عِلْمُهُ إِذَا أَخَذْتُمْ شَيْئًا ؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَسْتُ آخُذُ شَيْئًا مِنْ هَذَا . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَجَرَنَا وَسَدَّ الْأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَتَحَامَى مَنْزِلَنَا أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْءٌ ، وَقَدْ كَانَ