Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchive/public_html/production/pages/hadith.php on line 215

Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchive/public_html/production/pages/hadith.php on line 215
أرشيف الإسلام - موسوعة الحديث - حديث () - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء حديث رقم: 13488
  • 2351
  • لَمَّا جِيءَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْعِرَاقِ أُدْخِلَ إِلَيْهَا لَيْلًا عَلَى بَغْلٍ قَتَبٍ ، وَعَلَيْهِ طَيْلُسَانٌ مُطْبَقٌ ، وَفِي رِجْلَيْهِ حَدِيدٌ ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ، وَكَانَ قَدِ اعْتَوَرَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي ، وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى الْمَظَالِمِ ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمَا ، وَيَتَفَقَّهُ بِقَوْلِهِمَا فَسَبَقَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الرَّشِيدِ ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَكَانِ الشَّافِعِيِّ وَانْبَسَطَا جَمِيعًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَ لَكَ فِي الْبِلَادِ ، وَمَلَّكَكَ رِقَابَ الْعِبَادِ مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَمُعَانِدٍ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ ، لَا زِلْتَ مَسْمُوعًا لَكَ وَمُطَاعًا فَقَدْ عَلَتِ الدَّعْوَةُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُمْ كَارِهُونَ ، وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ اجْتَمَعَتْ ، وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ قَدْ أَتَاكَ مَنْ يَنُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ ، وَهُوُ عَلَى الْبَابِ ، يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ سِنُّهُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ قَدْرُهُ ، وَلَهُ لِسَانٌ وَمَنْطِقٌ وَرَوَاءٌ ، وَسَيُحَلِّيكَ بِلِسَانِهِ ، وَأَنَا خَائِفٌ ، كَفَاكَ اللَّهُ مُهِمَّاتِكَ ، وَأَقَالَكَ عَثَرَاتِكَ . ثُمَّ أَمْسَكَ . فَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ ، فَقَالَ : يَا يَعْقُوبُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : أَنْكَرْتَ مِنْ مَقَالَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ : مُحَمَّدٌ صَادِقٌ فِيمَا قَالَهُ وَالرَّجُلُ كَمَا خُلِقَ . فَقَالَ الرَّشِيدُ : لَا خَبَرَ بَعْدَ شَاهِدَيْنِ ، وَلَا إِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الْمِحْنَةِ ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَشْهَدَ بِشَهَادَةٍ يُخْفِيهَا عَنْ خَصْمِهِ . عَلَى رِسْلِكُمَا ، لَا تَبْرَحَا . ثُمَّ أَمَرَ بِالشَّافِعِيِّ فَأُدْخِلَ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَدِيدُ الَّذِي كَانَ فِي رِجْلَيْهِ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَجْلِسُ ، وَرَمَى الْقَوْمُ إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ رَمَى الشَّافِعِيُّ بِطَرْفِهِ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَشَارَ بِكَفَّةِ كِتَابِهِ مُسَلِّمًا ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، بَدَأْتَ بِسُنَّةٍ لَمْ تُؤْمَرْ بِإِقَامَتِهَا ، وَزِدْنَا فَرِيضَةٌ قَامَتْ بِذَاتِهَا ، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي مَجْلِسِي بِغَيْرِ أَمْرِي . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيْمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا وَعَدَ وَفَى ، فَقَدْ مَكَّنَنِي فِي أَرْضِهِ ، وَأَمَّنَنِي بَعْدَ خَوْفِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَجَلْ قَدْ أَمَّنَكَ اللَّهُ إِنْ أَمَّنْتُكَ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " فَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّكَ لَا تُقْتَلُ قَوْمَكَ صَبْرًا ، وَلَا تَزْدَرِيهِمْ بِهِجْرَتِكَ غَدْرًا ، وَلَا تَكْذِبُهُمْ إِذَا أَقَامُوا لَدَيْكَ عُذْرًا " . فَقَالَ الرَّشِيدُ : هُوَ كَذَلِكَ ، فَمَا عُذْرُكَ مَعَ مَا أَرَى مِنْ حَالِكِ ، وَتَسْيِيرِكَ مِنْ حِجِازَكَ إِلَى عِرَاقِنَا الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا بَعْدَ أَنْ بَغَى صَاحِبُكَ ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ وَأَنْتَ رَئِيسُهُمْ ، فَمَا يَنْفَعُ لَكَ الْقَوْلُ مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَلَنْ تَضُرَّ الشَّهَادَةُ مَعَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا إِذَا اسْتَطْلَقَنِي الْكَلَامُ فَلَسْنَا نُكَلِّمُ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : ذَلِكَ لَكَ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اتَّسَعَ لِي الْكَلَامُ عَلَى مَا بِي لَمَا شَكَوْتُ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ مَعَ ثِقْلِ الْحَدِيدِ يُعْوِرُ فَإِنْ جُدْتَ عَلِيَّ بِفَكِّهِ تَرَكْتَ كَسْرَهُ إِيَّايَ ، وَفَصَحْتُ عَنْ نَفْسِي ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى فَيَدُكَ الْعُلْيَا ، وَيَدِي السُّفْلَى ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ " . فَقَالَ الرَّشِيدُ لِغُلَامِهِ : يَا سِرَاجُ ، حُلَّ عَنْهُ . فَأَخَذَ مَا فِي قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَدِيدِ ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيسْرَى وَنَصَبَ الْيمْنَى ، وَابْتَدَرَ الْكَلَامَ ، فَقَالَ : " وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ يَحْشُرَنِي اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتَ لَا ينْكِرُ عَنْهُ اخْتِلَافُ الْأَهْوَاءِ ، وَتَفَرَّقَ الْآرَاءِ ، أَحَبُّ إِلَيَّ وَإِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ يَحْشُرَنِي تَحْتَ رَايَةِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيِّ " . وَكَانَ الرَّشِيدُ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ ، لَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ رَايَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَقَارِبِهِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَحْشُرَكَ اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ خَارِجِيٍّ يَأْخُذُهُ اللَّهُ بَغْتَةً ، فَأَخْبِرْنِي يَا شَافِعِيُّ ، مَا حُجَّتُكَ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا أَئِمَّةٌ وَأَنْتَ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ : " قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَطِبْ نَفْسِي لَهَا . وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَا سَبَقْتُ بِهَا ، وَالَّذِينَ حَكَوْهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبْطَلُوا مَعَانِيَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا كَذَلِكَ " . فَنَظَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمَا ، فَلَمَّا رَآهُمَا لَا يَتَكَلَّمَانِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمَا ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَدْ صَدَقْتَ يَا ابْنَ إِدْرِيسَ فَكَيْفَ بَصَرُكَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : " عَنْ أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَسْأَلُنِي ؟ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ كِتَابًا عَلَى خَمْسَةِ أَنْبِيَاءٍ ، وَأَنْزَلَ كِتَابًا مَوْعِظَةً لِنَبِيٍّ وَحْدَهُ ، وَكَانَ سَادِسًا ، أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَلَيْهِ أَنْزَلَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً كُلُّهَا أَمْثَالٌ ، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتَّ عَشْرَةَ صَحِيفَةً كُلُّهَا حِكَمُ وَعِلْمُ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى . وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيَةَ صُحُفٍ كُلَّهَا حِكَمٌ مُفَصَّلَةٌ فِيهَا فَرَائِضُ وَنُذُرُ . وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ كُلُّهَا تَخْوِيفٌ وَمَوْعِظَةٌ . وَأَنْزَلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِنْجِيلَ لِيبَيِّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا كُلُّهُ دُعَاءٌ وَمَوْعِظَةٌ لِنَفْسِهِ ، حَتَّى يُخَلِّصُهُ بِهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ وَحِكَمٌ فِيهِ لَنَا وَاتِّعَاظٌ لِدَاوُدَ وَأَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ . وَأَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفُرْقَانَ وَجَمَعَ فِيهِ سَائِرَ الْكُتُبِ ، فَقَالَ : {{ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }} , {{ وَهَدًى وَمَوْعِظَةً }} , {{ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَّتْ }} " فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَدْ أَحْسَنْتَ فِي تَفْصِيلِكَ ، أَفَكُلُّ هَذَا عَلِمْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ : " إِي وَاللَّهِ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَصْدِي كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى ابْنِ عَمِّي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَعَانَا إِلَى قَبُولِهِ ، وَأَمَرَنَا بِالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِهِ ، فَقَالَ : " عَنْ أَيِّ آيَةٍ تَسْأَلُنِي ؟ عَنْ مُحْكَمِهِ ، أَمْ عَنْ مُتَشَابِهِهِ ؟ أَمْ عَنْ تَقْدِيمِهِ ؟ أَمْ عَنْ تَأْخِيرِهِ ؟ أَمْ عَنْ نَاسِخِهِ ؟ أَمْ مَنْسُوخِهِ ؟ أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَارْتَفَعَتْ تِلَاوَتُهُ ، أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَتْ تِلَاوَتُهُ وَارْتَفَعَ حُكْمُهُ ، أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا ؟ أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا ؟ أَمْ عَنْ مَا أَحْصَى فِيهِ فِعَالَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ؟ أَمْ عَنْ مَا قَصَدَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ فِعْلِهِ تَحْذِيرًا ؟ " قَالَ : بِمَ ذَاكَ ؟ حَتَّى عَدَّ لَهُ الشَّافِعِيُّ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : وَيْحَكَ يَا شَافِعِيُّ أَفَكُلَّ هَذَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ . فَقَالَ لَهُ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمِحْنَةُ عَلَى الْقَائِلِ كَالنَّارِ عَلَى الْفِضَّةِ ، تُخْرِجُ جَوْدَتَهَا مِنْ رَدَاءَتِهَا ، فَهَا أَنَا ذَا , فَامْتَحِنْ " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : مَا أَحْسَنَ أَعِدْ مَا قُلْتَ ، فَسَأَسْأَلُكَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ لَهُ : وَكَيْفَ بَصَرُكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُ : " إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْخَاصِّ لَا يُشْرَكُ فِيهِ الْعَامُّ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ الْخُصُوصُ ، وَمَا خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَمَا خَرَجَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِازْدِحَامِ الْعُلُومِ فِي صَدْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَاقْتَدَى بِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَمَا خَصَّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ، مَعَ مَالًا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّاسِ وَسَنَّهُ ذِكْرًا " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَخَذْتَ التَّرْتِيبَ يَا شَافِعِيُّ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَحْسَنْتَ مَوْضِعَهَا لِوَصْفِهَا ، فَمَا حَاجَتُنَا إِلَى التَّكْرَارِ عَلَيْكَ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وَمَنْ حَضَرْنَا أَنَّكَ حَامِلُ نِصَابِهَا مِقْلَابُهَا . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : " ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ، وَإِنَّمَا شَرَفُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ " . فَقَالَ : كَيْفَ بَصَرُكَ بِالْعَرَبِيَّةِ ؟ قَالَ : " هِيَ مَبْدَأُنَا وَطِبَاعُنَا بِهَا قُوِّمَتْ ، وَأَلْسِنَتُنَا بِهَا جَرَتْ ، فَصَارَتْ كَالْحَيَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبِيَّةُ لَا تَسْلَمُ إِلَّا لِأَهْلِهَا ، وَلَقَدْ وُلِدْتُ وَمَا أَعْرِفُ اللَّحْنَ ، فَكُنْتُ كَمَنْ سَلِمَ مِنَ الدَّاءِ مَا سَلِمَ لَهُ الدَّوَاءُ ، وَعَاشَ بَكَامِلِ الْهَنَاءِ . وَبِذَلِكَ شَهِدَ لِيَ الْقُرْآنُ : {{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ }} يَعْنِي قُرَيْشًا - وَأَنْتَ مِنْهُمْ وَأَنَا مِنْهُمْ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْعُنْصُرُ نَظِيفٌ ، وَالْجُرْثُومَةُ مَنِيعَةٌ شَامِخَةٌ ، أَنْتَ أَصْلٌ وَنَحْنُ فَرَعٌ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرٌ وَمُبَيِّنٌ ، بِهِ اجْتَمَعَتْ أَحْسَابُنَا ، فَنَحْنُ بَنُو الْإِسْلَامِ ، وَبِذَلِكَ نُدْعَى وَنُنْسَبُ " ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : صَدَقْتَ ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : كَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالشِّعْرِ ؟ فَقَالَ : " إِنِّي لَأَعْرِفُ طَوِيلَهُ ، وَكَامِلَهُ وَسَرِيعَهُ ، وَمُجْتَثَّهُ ، وَمُنْسَرِحَهُ ، وَخَفِيفَهُ ، وَهَزَجَهُ ، وَرَجَزَهُ وَحِكَمَهُ ، وَغَزَلَهُ ، وَمَا قِيلَ فِيهِ عَلَى الْأَمْثَالِ تِبْيَانًا لِلْأَخْبَارِ ، وَمَا قَصَدَ بِهِ العُشَّاقُ رَجَاءً لِلتَّلَاقِ ، وَمَا رَثَى بِهِ الْأَوَائِلُ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْأَوَاخِرُ ، وَمَا امْتَدَحَ بِهِ الْمُكْثِرُونَ بِابْتِلَاءِ أُمَرَائِهِمْ ، وَعَامَّتُهَا كَذِبٌ وَزُورٌ ، وَمَا نَطَقَ بِهِ الشَّاعِرُ لِيُعْرَفَ تَنْبِيهًا ، وَحَالَ لِشَيْخِهِ فَوَجَلَ شَاعِرُهُ وَمَا خَرَجَ عَلَى طَرَبٍ مِنْ قَائِلِهِ ، لَا أَرَبَ لَهُ ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ الشَّاعِرُ فَصَارَ حِكْمَةً لِمُسْتَمِعِهِ " ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : اكْفُفْ يَا شَافِعِيُّ فَقَدْ أَنْفَقْتَ فِي الشَّعْرِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يعْرَفُ هَذَا وَيَزِيدُ عَلَى الْخَلِيلِ حَرْفًا وَلَقَدْ زِدْتَ وَأَفْضَلْتَ . فَكَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالْعَرَبِ قَالَ : " أَمَّا أَنَا فَمِنْ أَضْبَطِ النَّاسِ لِآبَائِهَا وَجَوَامِعِ أَحْسَابِهَا ، وَشَوَابِكِ أَنْسَابِهَا ، وَمَعْرِفَةِ وَقَائِعِهَا ، وَحَمْلِ مَغَازِيهَا فِي أَزْمِنَتِهَا وَكَمِّيَّةِ مُلُوكِهَا وَكَيْفِيَّةِ مُلْكِها ، وَمَاهِيَّةِ مَرَاتِبِهَا ، وَتَكْمِيلِ مَنَازِلِهَا ، وَأَنْدِيَةِ عِرَاضِهَا وَمَنَازِلِهَا ، مِنْهُمْ تُبَّعٌ وَحِمْيَرُ ، وَجَفْنَةُ ، وَالْأَسْطَحُ ، وَعِيصٌ وَعُوَيْصٌ ، وَالْإِسْكَنْدَرُ ، وَأَسْفَادُ ، وَأُسْطَطَاوِيسُ ، وَسُوطُ ، وَبُقْرَاطُ ، وَأَرْسِطُطَالِيسُ ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الرُّومِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَنُوبَةَ ، وَأَحْمَرَ ، وَعَمْرِو بْنِ هِنْدٍ ، وَسَيْفِ بْنِ ذِي يَزِنَ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَقَطَرِ بْنِ أَسْعَدَ ، وَصَعْدِ بْنِ سَعْفَانَ ، وَهُوَ جَدُّ سَطِيحٍ الْغَسَّانِيِّ لِأَبِيهِ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُلُوكِ قُضَاعَةَ وَهَمْدَانَ وَلِحْيَانَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : يَا شَافِعِيُّ ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَقُلْتُ : إِنَّكَ مِمَّنْ لِينَ لَهُ الْحَدِيدُ ، فَهَلْ مِنْ مَوْعِظَةٍ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إِنَّكَ تَخْلَعُ رِدَاءَ الْكِبْرِ عَنْ عَاتِقِكَ ، وَتَضَعُ تَاجَ الْهَيْبَةِ عَنْ رَأْسِكَ ، وَتَنْزِعُ قَمِيصَ التَّجَبُّرِ عَنْ جَسَدِكَ ، وَتُفَتِّشُ نَفْسَكَ ، وَتَنْشُرُ سِرَّكَ ، وَتُلْقِي جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِكَ ، مُسْتَكِينًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ . وَأَكُونُ وَاعِظًا لَكَ عَنِ الْحَقِّ ، وَتَكُونُ مُسْتَمِعًا بِحُسْنِ الْقَبُولِ ؛ فَيَنْفَعَنِي اللَّهُ بِمَا أَقُولُ ، وَيَنْفَعُكَ بِمَا تَسْمَعُ " . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَمَا إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَسَمِعْتُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، وَلِلْوَاعِظِينَ بَعْدَهُمَا ، فَعِظْ وَأَوْجِزْ . فَحَلَّ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ إِزَارَهُ ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، وَقَالَ : " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ امْتَحَنَكَ بِالنَّعَمِ ، وَابْتَلَاكَ بِالشُّكْرِ فَفَضْلُ النِّعْمَةِ أَحْسَنُ لِتَسْتَغْرِقَ بِقَلِيلِهَا كَثِيرًا مِنْ شُكْرِكَ ، فَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا ، وَلِآلَائِهِ ذَاكِرًا ، تَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْمَزِيدَ . وَاتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، تَسْتَكْمِلِ الطَّاعَةَ ، وَاسْمَعْ لِقَائِلِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ دُونَكَ تَشْرُفْ عِنْدَ اللَّهِ ، وَتَزِدْ فِي عَيْنِ رَعِيَّتِكَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْتِشُ سِرَّكَ ، فَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ عَلَانِيَتِكَ شَغَلَكَ بِهَمِّ الدُّنْيَا ، وَفَتَقَ لَكَ مَا يَزْنِقُ عَلَيْكَ ، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِعَلَانِيَتِكَ أَحَبَّكَ ، وَصَرَفَ هَمَّ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِكَ ، وَكَفَاكَ مَئُونَةَ نَظَرِكَ لِغَيْرِكَ ، وَتَرَكَ لَكَ نَظَرَكَ لِنَفْسِكَ ، وَكَانَ الْمُقَوِّيَ لِسَيَاسَتِكَ . وَلَنْ تُطَاعَ إِلَّا بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَكُنْ طَائِعًا تَكْتَسِبْ بِذَلِكَ السَّلَامَةَ فِي الْعَاجِلِ وَحُسْنَ الْمُنْقَلَبِ فِي الآجِلِ : {{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }} وَاحْذَرِ اللَّهَ حَذَرَ عَبْدٍ عَلِمَ مَكَانَ عَدُوِّهِ ، وَغَابَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ، فَتَيَقَّظَ خَوْفَ السُّرَى ، لَا تَأْمَنْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ لِتَوَاتُرِ نِعَمِهِ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ لَكَ ، وَذَهَابٌ لِدِينِكَ ، وَأَسْقِطِ الْمَهَابَةَ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَعَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ بِهِ ، وَلَنْ تُهْلَكَ مَا تَمَسَّكْتَ بِهِ ، فَاعْتَصَمِ بِاللَّهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، وَعَلَيْكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ وَمَا نَصَبَ الْخُلَفَاءُ الْمَهْدِيُّونَ فِي الْخَرَاجِ وَالْأَرَضِينَ وَالسَّوَادِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدِّيَارَاتِ فَكُنْ لَهُمْ تَبَعًا ، وَبِهِ عَامِلًا رَاضِيًا مُسَلِّمًا وَاحْذَرِ التِّلْبِيسَ فِيهِ ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِكَ ، وَعَلَيْكَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : {{ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ }} فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ، وَآتِهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي أَتَاكَ ، وَلَا تُكْرِهْهُمْ عَلَى إِمْسَاكٍ عَنْ حَقٍّ ، وَلَا عَلَى خَوْضٍ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ مَكَّنُوا لَكَ الْبِلَادَ وَاسْتَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَ وَنَوَّرُوا لَكَ الظُّلْمَةَ وَكَشَفُوا عَنْكَ الْغُمَّةَ ، وَمَكَّنُوا لَكَ فِي الْأَرْضِ ، وَعَرَّفُوكَ السِّيَاسَةَ ، وَقَلَّدُوكَ الرِّيَاسَةَ ، فَنَهَضْتَ بِثِقْلِهَا بَعْدَ ضَعْفٍ ، وَقَوِيتَ عَلَيْهَا بَعْدَ فَشَلٍ ، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجُوكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ لِعِفَّتِهِمْ ، طَمَعَ الزِّيَادَةِ لَهُمْ ؛ فَلَا تُطِعِ الْخَاصَّةَ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْعَامَّةِ ، وَلَا تُطِعِ الْعَامَّةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ ؛ لِتَسْتَدِيمَ السَّلَامَةُ ، وَكُنْ لِلَّهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَوْلِيَاؤُكَ مِنَ الْعَامَّةِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّهُ مَا وُلِّيَ أَحَدٌ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يُحِطْهُمْ بِنَصِيحَةٍ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهَا إِلَّا عَدْلُهُ ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ " ، قَالَ : فَبَكَى الرَّشِيدُ - وَقَدْ كَانَ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَبْكِي لَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ - فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْفَصْلِ بَكَى الرَّشِيدُ وَعَلَا نَحِيبُهُ ، وَبَكَى جُلَسَاؤُهُ ، وَبَكَى مُحَمَّدُ وَأَبُو يُوسُفَ . فَقَالَ الْوَالِي : يَا هَذَا الرَّجُلَ ، احْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَدْ قَطَعْتَ قَلْبَهُ حُزْنًا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمِهِ : اغْمِدْ لِسَانَكَ يَا شَافِعِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُ أَمْضَى مِنْ سَيْفِكَ - وَالرَّشِيدُ يَبْكِي لَا يُفِيقُ - فَأَقْبَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ : " اسْكُتُوا أَخْرَسَكُمُ اللَّهُ ، لَا تَذْهَبُوا بِنُورِ الْحِكْمَةِ يَا مَعْشَرَ عُبَيْدِ الرِّعَاعِ ، وَعُبَيْدِ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، أَخَذَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ لِتَلْبِيسِكُمُ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَرِثُكُمُ الْمَلِكَ لَدَيْهِ ، أَمَا وَاللَّهِ مَا زَالَتِ الْخِلَافَةُ بِخَيْرٍ مَا صُرِفَ عَنْهَا أَمْثَالُكُمْ ، وَلَنْ تَزَالَ بِشَرٍّ مَا اعْتَصَمَتْ بِكُمْ " ، فَرَفَعَ الرَّشِيدُ رَأْسَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِسَيْفٍ ، فَقَالَ : خُذْ هَذَا الْكَهْلَ إِلَيْكَ ، وَلَا تَحُلَّنِي مِنْهُ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ : قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِصِلَةٍ فَرَأْيُكَ فِي قَبُولِهَا مُوقَفٌ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : " كَلَّا ، وَاللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّدْتُ وَجْهَ مَوْعِظَتِي بِقَبُولِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَقَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنِّي لَا أُخْلَطُ بِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ تَكَبَّرَ فِي نَفْسِهِ وَتَصَغَّرَ عِنْدَ رَبِّهِ إِلَّا ذَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى ، لَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا " . ثُمَّ نَهَضَ ، فَلَمَّا خَرَجَ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبَ فَقَالَ لَهُمَا : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفَرَأَيْتُمَا كَيَوْمِكُمَا ؟ فَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نَقُولَ : لَا . فَقَالَ الرَّشِيدُ لَهُمَا : أَبِهَذَا تُغْرِيَانِي لَقَدْ بُؤْتُمَا الْيَوْمَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِالتَّأْيِيدِ فِي أَمْرِهِ ، كَيْفَمَا أَوْقَعْتُمَانِي فِيمَا لَا خَلَاصَ لِي مِنْهُ عِنْدَ رَبِّي ؟ ثُمَّ وَثَبَ الرَّشِيدُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ . فَلَقَدْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إِلَى الشَّافِعِيِّ ، وَرُبَّمَا حُجِبَ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَبِلَهَا ، فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَقَالَ : لِلَّهِ دَرُّكَ مَا أَفْطَنَكَ ؟ قَاتَلَ اللَّهُ عَدُوَّكَ فَقَدْ أَصْبَحَ لَكَ وَلِيًّا . وَأَمَرَ الرَّشِيدُ خَادِمَهُ سِرَاجًا بِاتِّبَاعِهِ ، فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا قَبْضَةً قَبْضَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَارِجِ الدَّارِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا قَبْضَةٌ وَاحِدَةٌ فَدَفَعَهَا إِلَى غُلَامهِ وَقَالَ لَهُ : انْتَفِعْ بِهَا . فَأَخْبَرَ سِرَاجٌ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ فَقَالَ : لِهَذَا ذَرُعَ هَمُّهُ ، وَقَوِيَ مَتْنُهُ . فَاسْتَمَرَّ الرَّشِيدُ عَلَيْهِمَا

    حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ ، ثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْدَّقَّاقُ وَالْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ الْبَغْدَادِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى النَّجَّارُ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأُمَوِيُّ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيِّ ، قَالَ : لَمَّا جِيءَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْعِرَاقِ أُدْخِلَ إِلَيْهَا لَيْلًا عَلَى بَغْلٍ قَتَبٍ ، وَعَلَيْهِ طَيْلُسَانٌ مُطْبَقٌ ، وَفِي رِجْلَيْهِ حَدِيدٌ ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ، وَكَانَ قَدِ اعْتَوَرَ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي ، وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى الْمَظَالِمِ ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمَا ، وَيَتَفَقَّهُ بِقَوْلِهِمَا فَسَبَقَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الرَّشِيدِ ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَكَانِ الشَّافِعِيِّ وَانْبَسَطَا جَمِيعًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَ لَكَ فِي الْبِلَادِ ، وَمَلَّكَكَ رِقَابَ الْعِبَادِ مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَمُعَانِدٍ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ ، لَا زِلْتَ مَسْمُوعًا لَكَ وَمُطَاعًا فَقَدْ عَلَتِ الدَّعْوَةُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُمْ كَارِهُونَ ، وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ اجْتَمَعَتْ ، وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ قَدْ أَتَاكَ مَنْ يَنُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ ، وَهُوُ عَلَى الْبَابِ ، يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ سِنُّهُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ قَدْرُهُ ، وَلَهُ لِسَانٌ وَمَنْطِقٌ وَرَوَاءٌ ، وَسَيُحَلِّيكَ بِلِسَانِهِ ، وَأَنَا خَائِفٌ ، كَفَاكَ اللَّهُ مُهِمَّاتِكَ ، وَأَقَالَكَ عَثَرَاتِكَ . ثُمَّ أَمْسَكَ . فَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ ، فَقَالَ : يَا يَعْقُوبُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : أَنْكَرْتَ مِنْ مَقَالَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ : مُحَمَّدٌ صَادِقٌ فِيمَا قَالَهُ وَالرَّجُلُ كَمَا خُلِقَ . فَقَالَ الرَّشِيدُ : لَا خَبَرَ بَعْدَ شَاهِدَيْنِ ، وَلَا إِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الْمِحْنَةِ ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَشْهَدَ بِشَهَادَةٍ يُخْفِيهَا عَنْ خَصْمِهِ . عَلَى رِسْلِكُمَا ، لَا تَبْرَحَا . ثُمَّ أَمَرَ بِالشَّافِعِيِّ فَأُدْخِلَ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحَدِيدُ الَّذِي كَانَ فِي رِجْلَيْهِ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَجْلِسُ ، وَرَمَى الْقَوْمُ إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ رَمَى الشَّافِعِيُّ بِطَرْفِهِ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَشَارَ بِكَفَّةِ كِتَابِهِ مُسَلِّمًا ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، بَدَأْتَ بِسُنَّةٍ لَمْ تُؤْمَرْ بِإِقَامَتِهَا ، وَزِدْنَا فَرِيضَةٌ قَامَتْ بِذَاتِهَا ، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي مَجْلِسِي بِغَيْرِ أَمْرِي . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيْمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا وَعَدَ وَفَى ، فَقَدْ مَكَّنَنِي فِي أَرْضِهِ ، وَأَمَّنَنِي بَعْدَ خَوْفِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَجَلْ قَدْ أَمَّنَكَ اللَّهُ إِنْ أَمَّنْتُكَ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّكَ لَا تُقْتَلُ قَوْمَكَ صَبْرًا ، وَلَا تَزْدَرِيهِمْ بِهِجْرَتِكَ غَدْرًا ، وَلَا تَكْذِبُهُمْ إِذَا أَقَامُوا لَدَيْكَ عُذْرًا . فَقَالَ الرَّشِيدُ : هُوَ كَذَلِكَ ، فَمَا عُذْرُكَ مَعَ مَا أَرَى مِنْ حَالِكِ ، وَتَسْيِيرِكَ مِنْ حِجِازَكَ إِلَى عِرَاقِنَا الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا بَعْدَ أَنْ بَغَى صَاحِبُكَ ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ وَأَنْتَ رَئِيسُهُمْ ، فَمَا يَنْفَعُ لَكَ الْقَوْلُ مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَلَنْ تَضُرَّ الشَّهَادَةُ مَعَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَّا إِذَا اسْتَطْلَقَنِي الْكَلَامُ فَلَسْنَا نُكَلِّمُ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : ذَلِكَ لَكَ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اتَّسَعَ لِي الْكَلَامُ عَلَى مَا بِي لَمَا شَكَوْتُ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ مَعَ ثِقْلِ الْحَدِيدِ يُعْوِرُ فَإِنْ جُدْتَ عَلِيَّ بِفَكِّهِ تَرَكْتَ كَسْرَهُ إِيَّايَ ، وَفَصَحْتُ عَنْ نَفْسِي ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى فَيَدُكَ الْعُلْيَا ، وَيَدِي السُّفْلَى ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ . فَقَالَ الرَّشِيدُ لِغُلَامِهِ : يَا سِرَاجُ ، حُلَّ عَنْهُ . فَأَخَذَ مَا فِي قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَدِيدِ ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيسْرَى وَنَصَبَ الْيمْنَى ، وَابْتَدَرَ الْكَلَامَ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ يَحْشُرَنِي اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتَ لَا ينْكِرُ عَنْهُ اخْتِلَافُ الْأَهْوَاءِ ، وَتَفَرَّقَ الْآرَاءِ ، أَحَبُّ إِلَيَّ وَإِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ يَحْشُرَنِي تَحْتَ رَايَةِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيِّ . وَكَانَ الرَّشِيدُ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ ، لَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ رَايَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَقَارِبِهِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَحْشُرَكَ اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ خَارِجِيٍّ يَأْخُذُهُ اللَّهُ بَغْتَةً ، فَأَخْبِرْنِي يَا شَافِعِيُّ ، مَا حُجَّتُكَ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا أَئِمَّةٌ وَأَنْتَ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَطِبْ نَفْسِي لَهَا . وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَا سَبَقْتُ بِهَا ، وَالَّذِينَ حَكَوْهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبْطَلُوا مَعَانِيَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا كَذَلِكَ . فَنَظَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمَا ، فَلَمَّا رَآهُمَا لَا يَتَكَلَّمَانِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ ، وَأَمْسَكَ عَنْهُمَا ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَدْ صَدَقْتَ يَا ابْنَ إِدْرِيسَ فَكَيْفَ بَصَرُكَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : عَنْ أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَسْأَلُنِي ؟ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ كِتَابًا عَلَى خَمْسَةِ أَنْبِيَاءٍ ، وَأَنْزَلَ كِتَابًا مَوْعِظَةً لِنَبِيٍّ وَحْدَهُ ، وَكَانَ سَادِسًا ، أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَلَيْهِ أَنْزَلَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً كُلُّهَا أَمْثَالٌ ، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتَّ عَشْرَةَ صَحِيفَةً كُلُّهَا حِكَمُ وَعِلْمُ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى . وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيَةَ صُحُفٍ كُلَّهَا حِكَمٌ مُفَصَّلَةٌ فِيهَا فَرَائِضُ وَنُذُرُ . وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ كُلُّهَا تَخْوِيفٌ وَمَوْعِظَةٌ . وَأَنْزَلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِنْجِيلَ لِيبَيِّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا كُلُّهُ دُعَاءٌ وَمَوْعِظَةٌ لِنَفْسِهِ ، حَتَّى يُخَلِّصُهُ بِهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ وَحِكَمٌ فِيهِ لَنَا وَاتِّعَاظٌ لِدَاوُدَ وَأَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ . وَأَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الْفُرْقَانَ وَجَمَعَ فِيهِ سَائِرَ الْكُتُبِ ، فَقَالَ : {{ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }} , {{ وَهَدًى وَمَوْعِظَةً }} , {{ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَّتْ }} فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَدْ أَحْسَنْتَ فِي تَفْصِيلِكَ ، أَفَكُلُّ هَذَا عَلِمْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ : إِي وَاللَّهِ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : قَصْدِي كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى ابْنِ عَمِّي رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّذِي دَعَانَا إِلَى قَبُولِهِ ، وَأَمَرَنَا بِالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِهِ ، فَقَالَ : عَنْ أَيِّ آيَةٍ تَسْأَلُنِي ؟ عَنْ مُحْكَمِهِ ، أَمْ عَنْ مُتَشَابِهِهِ ؟ أَمْ عَنْ تَقْدِيمِهِ ؟ أَمْ عَنْ تَأْخِيرِهِ ؟ أَمْ عَنْ نَاسِخِهِ ؟ أَمْ مَنْسُوخِهِ ؟ أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَارْتَفَعَتْ تِلَاوَتُهُ ، أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَتْ تِلَاوَتُهُ وَارْتَفَعَ حُكْمُهُ ، أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا ؟ أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا ؟ أَمْ عَنْ مَا أَحْصَى فِيهِ فِعَالَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ؟ أَمْ عَنْ مَا قَصَدَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ فِعْلِهِ تَحْذِيرًا ؟ قَالَ : بِمَ ذَاكَ ؟ حَتَّى عَدَّ لَهُ الشَّافِعِيُّ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : وَيْحَكَ يَا شَافِعِيُّ أَفَكُلَّ هَذَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ . فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمِحْنَةُ عَلَى الْقَائِلِ كَالنَّارِ عَلَى الْفِضَّةِ ، تُخْرِجُ جَوْدَتَهَا مِنْ رَدَاءَتِهَا ، فَهَا أَنَا ذَا , فَامْتَحِنْ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : مَا أَحْسَنَ أَعِدْ مَا قُلْتَ ، فَسَأَسْأَلُكَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ لَهُ : وَكَيْفَ بَصَرُكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُ : إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْخَاصِّ لَا يُشْرَكُ فِيهِ الْعَامُّ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ الْخُصُوصُ ، وَمَا خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَمَا خَرَجَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِازْدِحَامِ الْعُلُومِ فِي صَدْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَاقْتَدَى بِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَمَا خَصَّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ، مَعَ مَالًا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّاسِ وَسَنَّهُ ذِكْرًا . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَخَذْتَ التَّرْتِيبَ يَا شَافِعِيُّ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، فَأَحْسَنْتَ مَوْضِعَهَا لِوَصْفِهَا ، فَمَا حَاجَتُنَا إِلَى التَّكْرَارِ عَلَيْكَ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وَمَنْ حَضَرْنَا أَنَّكَ حَامِلُ نِصَابِهَا مِقْلَابُهَا . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ، وَإِنَّمَا شَرَفُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيكَ . فَقَالَ : كَيْفَ بَصَرُكَ بِالْعَرَبِيَّةِ ؟ قَالَ : هِيَ مَبْدَأُنَا وَطِبَاعُنَا بِهَا قُوِّمَتْ ، وَأَلْسِنَتُنَا بِهَا جَرَتْ ، فَصَارَتْ كَالْحَيَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبِيَّةُ لَا تَسْلَمُ إِلَّا لِأَهْلِهَا ، وَلَقَدْ وُلِدْتُ وَمَا أَعْرِفُ اللَّحْنَ ، فَكُنْتُ كَمَنْ سَلِمَ مِنَ الدَّاءِ مَا سَلِمَ لَهُ الدَّوَاءُ ، وَعَاشَ بَكَامِلِ الْهَنَاءِ . وَبِذَلِكَ شَهِدَ لِيَ الْقُرْآنُ : {{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ }} يَعْنِي قُرَيْشًا - وَأَنْتَ مِنْهُمْ وَأَنَا مِنْهُمْ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْعُنْصُرُ نَظِيفٌ ، وَالْجُرْثُومَةُ مَنِيعَةٌ شَامِخَةٌ ، أَنْتَ أَصْلٌ وَنَحْنُ فَرَعٌ وَهُوَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُفَسِّرٌ وَمُبَيِّنٌ ، بِهِ اجْتَمَعَتْ أَحْسَابُنَا ، فَنَحْنُ بَنُو الْإِسْلَامِ ، وَبِذَلِكَ نُدْعَى وَنُنْسَبُ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : صَدَقْتَ ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ . ثُمَّ قَالَ لَهُ : كَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالشِّعْرِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ طَوِيلَهُ ، وَكَامِلَهُ وَسَرِيعَهُ ، وَمُجْتَثَّهُ ، وَمُنْسَرِحَهُ ، وَخَفِيفَهُ ، وَهَزَجَهُ ، وَرَجَزَهُ وَحِكَمَهُ ، وَغَزَلَهُ ، وَمَا قِيلَ فِيهِ عَلَى الْأَمْثَالِ تِبْيَانًا لِلْأَخْبَارِ ، وَمَا قَصَدَ بِهِ العُشَّاقُ رَجَاءً لِلتَّلَاقِ ، وَمَا رَثَى بِهِ الْأَوَائِلُ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْأَوَاخِرُ ، وَمَا امْتَدَحَ بِهِ الْمُكْثِرُونَ بِابْتِلَاءِ أُمَرَائِهِمْ ، وَعَامَّتُهَا كَذِبٌ وَزُورٌ ، وَمَا نَطَقَ بِهِ الشَّاعِرُ لِيُعْرَفَ تَنْبِيهًا ، وَحَالَ لِشَيْخِهِ فَوَجَلَ شَاعِرُهُ وَمَا خَرَجَ عَلَى طَرَبٍ مِنْ قَائِلِهِ ، لَا أَرَبَ لَهُ ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ الشَّاعِرُ فَصَارَ حِكْمَةً لِمُسْتَمِعِهِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : اكْفُفْ يَا شَافِعِيُّ فَقَدْ أَنْفَقْتَ فِي الشَّعْرِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يعْرَفُ هَذَا وَيَزِيدُ عَلَى الْخَلِيلِ حَرْفًا وَلَقَدْ زِدْتَ وَأَفْضَلْتَ . فَكَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالْعَرَبِ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَمِنْ أَضْبَطِ النَّاسِ لِآبَائِهَا وَجَوَامِعِ أَحْسَابِهَا ، وَشَوَابِكِ أَنْسَابِهَا ، وَمَعْرِفَةِ وَقَائِعِهَا ، وَحَمْلِ مَغَازِيهَا فِي أَزْمِنَتِهَا وَكَمِّيَّةِ مُلُوكِهَا وَكَيْفِيَّةِ مُلْكِها ، وَمَاهِيَّةِ مَرَاتِبِهَا ، وَتَكْمِيلِ مَنَازِلِهَا ، وَأَنْدِيَةِ عِرَاضِهَا وَمَنَازِلِهَا ، مِنْهُمْ تُبَّعٌ وَحِمْيَرُ ، وَجَفْنَةُ ، وَالْأَسْطَحُ ، وَعِيصٌ وَعُوَيْصٌ ، وَالْإِسْكَنْدَرُ ، وَأَسْفَادُ ، وَأُسْطَطَاوِيسُ ، وَسُوطُ ، وَبُقْرَاطُ ، وَأَرْسِطُطَالِيسُ ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الرُّومِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَنُوبَةَ ، وَأَحْمَرَ ، وَعَمْرِو بْنِ هِنْدٍ ، وَسَيْفِ بْنِ ذِي يَزِنَ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَقَطَرِ بْنِ أَسْعَدَ ، وَصَعْدِ بْنِ سَعْفَانَ ، وَهُوَ جَدُّ سَطِيحٍ الْغَسَّانِيِّ لِأَبِيهِ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُلُوكِ قُضَاعَةَ وَهَمْدَانَ وَلِحْيَانَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : يَا شَافِعِيُّ ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَقُلْتُ : إِنَّكَ مِمَّنْ لِينَ لَهُ الْحَدِيدُ ، فَهَلْ مِنْ مَوْعِظَةٍ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِنَّكَ تَخْلَعُ رِدَاءَ الْكِبْرِ عَنْ عَاتِقِكَ ، وَتَضَعُ تَاجَ الْهَيْبَةِ عَنْ رَأْسِكَ ، وَتَنْزِعُ قَمِيصَ التَّجَبُّرِ عَنْ جَسَدِكَ ، وَتُفَتِّشُ نَفْسَكَ ، وَتَنْشُرُ سِرَّكَ ، وَتُلْقِي جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِكَ ، مُسْتَكِينًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ . وَأَكُونُ وَاعِظًا لَكَ عَنِ الْحَقِّ ، وَتَكُونُ مُسْتَمِعًا بِحُسْنِ الْقَبُولِ ؛ فَيَنْفَعَنِي اللَّهُ بِمَا أَقُولُ ، وَيَنْفَعُكَ بِمَا تَسْمَعُ . فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : أَمَا إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَسَمِعْتُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ، وَلِلْوَاعِظِينَ بَعْدَهُمَا ، فَعِظْ وَأَوْجِزْ . فَحَلَّ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ إِزَارَهُ ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ امْتَحَنَكَ بِالنَّعَمِ ، وَابْتَلَاكَ بِالشُّكْرِ فَفَضْلُ النِّعْمَةِ أَحْسَنُ لِتَسْتَغْرِقَ بِقَلِيلِهَا كَثِيرًا مِنْ شُكْرِكَ ، فَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا ، وَلِآلَائِهِ ذَاكِرًا ، تَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْمَزِيدَ . وَاتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، تَسْتَكْمِلِ الطَّاعَةَ ، وَاسْمَعْ لِقَائِلِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ دُونَكَ تَشْرُفْ عِنْدَ اللَّهِ ، وَتَزِدْ فِي عَيْنِ رَعِيَّتِكَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْتِشُ سِرَّكَ ، فَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ عَلَانِيَتِكَ شَغَلَكَ بِهَمِّ الدُّنْيَا ، وَفَتَقَ لَكَ مَا يَزْنِقُ عَلَيْكَ ، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِعَلَانِيَتِكَ أَحَبَّكَ ، وَصَرَفَ هَمَّ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِكَ ، وَكَفَاكَ مَئُونَةَ نَظَرِكَ لِغَيْرِكَ ، وَتَرَكَ لَكَ نَظَرَكَ لِنَفْسِكَ ، وَكَانَ الْمُقَوِّيَ لِسَيَاسَتِكَ . وَلَنْ تُطَاعَ إِلَّا بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَكُنْ طَائِعًا تَكْتَسِبْ بِذَلِكَ السَّلَامَةَ فِي الْعَاجِلِ وَحُسْنَ الْمُنْقَلَبِ فِي الآجِلِ : {{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }} وَاحْذَرِ اللَّهَ حَذَرَ عَبْدٍ عَلِمَ مَكَانَ عَدُوِّهِ ، وَغَابَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ، فَتَيَقَّظَ خَوْفَ السُّرَى ، لَا تَأْمَنْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ لِتَوَاتُرِ نِعَمِهِ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ لَكَ ، وَذَهَابٌ لِدِينِكَ ، وَأَسْقِطِ الْمَهَابَةَ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَعَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ بِهِ ، وَلَنْ تُهْلَكَ مَا تَمَسَّكْتَ بِهِ ، فَاعْتَصَمِ بِاللَّهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، وَعَلَيْكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ وَمَا نَصَبَ الْخُلَفَاءُ الْمَهْدِيُّونَ فِي الْخَرَاجِ وَالْأَرَضِينَ وَالسَّوَادِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدِّيَارَاتِ فَكُنْ لَهُمْ تَبَعًا ، وَبِهِ عَامِلًا رَاضِيًا مُسَلِّمًا وَاحْذَرِ التِّلْبِيسَ فِيهِ ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِكَ ، وَعَلَيْكَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : {{ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ }} فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ، وَآتِهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي أَتَاكَ ، وَلَا تُكْرِهْهُمْ عَلَى إِمْسَاكٍ عَنْ حَقٍّ ، وَلَا عَلَى خَوْضٍ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ مَكَّنُوا لَكَ الْبِلَادَ وَاسْتَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَ وَنَوَّرُوا لَكَ الظُّلْمَةَ وَكَشَفُوا عَنْكَ الْغُمَّةَ ، وَمَكَّنُوا لَكَ فِي الْأَرْضِ ، وَعَرَّفُوكَ السِّيَاسَةَ ، وَقَلَّدُوكَ الرِّيَاسَةَ ، فَنَهَضْتَ بِثِقْلِهَا بَعْدَ ضَعْفٍ ، وَقَوِيتَ عَلَيْهَا بَعْدَ فَشَلٍ ، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجُوكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ لِعِفَّتِهِمْ ، طَمَعَ الزِّيَادَةِ لَهُمْ ؛ فَلَا تُطِعِ الْخَاصَّةَ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْعَامَّةِ ، وَلَا تُطِعِ الْعَامَّةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ ؛ لِتَسْتَدِيمَ السَّلَامَةُ ، وَكُنْ لِلَّهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَوْلِيَاؤُكَ مِنَ الْعَامَّةِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّهُ مَا وُلِّيَ أَحَدٌ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يُحِطْهُمْ بِنَصِيحَةٍ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهَا إِلَّا عَدْلُهُ ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ ، قَالَ : فَبَكَى الرَّشِيدُ - وَقَدْ كَانَ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَبْكِي لَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ - فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْفَصْلِ بَكَى الرَّشِيدُ وَعَلَا نَحِيبُهُ ، وَبَكَى جُلَسَاؤُهُ ، وَبَكَى مُحَمَّدُ وَأَبُو يُوسُفَ . فَقَالَ الْوَالِي : يَا هَذَا الرَّجُلَ ، احْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَدْ قَطَعْتَ قَلْبَهُ حُزْنًا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمِهِ : اغْمِدْ لِسَانَكَ يَا شَافِعِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُ أَمْضَى مِنْ سَيْفِكَ - وَالرَّشِيدُ يَبْكِي لَا يُفِيقُ - فَأَقْبَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ : اسْكُتُوا أَخْرَسَكُمُ اللَّهُ ، لَا تَذْهَبُوا بِنُورِ الْحِكْمَةِ يَا مَعْشَرَ عُبَيْدِ الرِّعَاعِ ، وَعُبَيْدِ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، أَخَذَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ لِتَلْبِيسِكُمُ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَرِثُكُمُ الْمَلِكَ لَدَيْهِ ، أَمَا وَاللَّهِ مَا زَالَتِ الْخِلَافَةُ بِخَيْرٍ مَا صُرِفَ عَنْهَا أَمْثَالُكُمْ ، وَلَنْ تَزَالَ بِشَرٍّ مَا اعْتَصَمَتْ بِكُمْ ، فَرَفَعَ الرَّشِيدُ رَأْسَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِسَيْفٍ ، فَقَالَ : خُذْ هَذَا الْكَهْلَ إِلَيْكَ ، وَلَا تَحُلَّنِي مِنْهُ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ : قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِصِلَةٍ فَرَأْيُكَ فِي قَبُولِهَا مُوقَفٌ . فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : كَلَّا ، وَاللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّدْتُ وَجْهَ مَوْعِظَتِي بِقَبُولِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَقَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنِّي لَا أُخْلَطُ بِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ تَكَبَّرَ فِي نَفْسِهِ وَتَصَغَّرَ عِنْدَ رَبِّهِ إِلَّا ذَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى ، لَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا . ثُمَّ نَهَضَ ، فَلَمَّا خَرَجَ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبَ فَقَالَ لَهُمَا : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفَرَأَيْتُمَا كَيَوْمِكُمَا ؟ فَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نَقُولَ : لَا . فَقَالَ الرَّشِيدُ لَهُمَا : أَبِهَذَا تُغْرِيَانِي لَقَدْ بُؤْتُمَا الْيَوْمَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِالتَّأْيِيدِ فِي أَمْرِهِ ، كَيْفَمَا أَوْقَعْتُمَانِي فِيمَا لَا خَلَاصَ لِي مِنْهُ عِنْدَ رَبِّي ؟ ثُمَّ وَثَبَ الرَّشِيدُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ . فَلَقَدْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إِلَى الشَّافِعِيِّ ، وَرُبَّمَا حُجِبَ ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَبِلَهَا ، فَضَحِكَ الرَّشِيدُ وَقَالَ : لِلَّهِ دَرُّكَ مَا أَفْطَنَكَ ؟ قَاتَلَ اللَّهُ عَدُوَّكَ فَقَدْ أَصْبَحَ لَكَ وَلِيًّا . وَأَمَرَ الرَّشِيدُ خَادِمَهُ سِرَاجًا بِاتِّبَاعِهِ ، فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا قَبْضَةً قَبْضَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَارِجِ الدَّارِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا قَبْضَةٌ وَاحِدَةٌ فَدَفَعَهَا إِلَى غُلَامهِ وَقَالَ لَهُ : انْتَفِعْ بِهَا . فَأَخْبَرَ سِرَاجٌ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ فَقَالَ : لِهَذَا ذَرُعَ هَمُّهُ ، وَقَوِيَ مَتْنُهُ . فَاسْتَمَرَّ الرَّشِيدُ عَلَيْهِمَا

    قتب: القتب : هو الرحل الذي يوضع حول سنام البعير تحت الراكب
    طيلسان: الطيلسان : ثوب يلبس على الكتف أو يحيط بالبدن ينسج للبس ، خال من التفصيل والخياطة
    عثراتك: العثرة : الزلة والسقطة
    بغتة: البغتة : الفجأة
    أرب: الأرب : الحاجة والرغبة والمطلب
    بؤتما: باء : رجع والمراد اتصف بالكفر
    لا توجد بيانات
    لا يوجد رواة
    لا توجد بيانات
    لا توجد بيانات
    لا توجد بيانات