سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ حَضَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَ الْكَعْبَةَ وَبَنَاهَا قَالُوا : لَمَّا أَبْطَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، وَتَخَلَّفَ وَخَشِيَ مِنْهُمْ ، لَحِقَ بِمَكَّةَ لِيَمْتَنِعَ بِالْحَرَمِ ، وَجَمَعَ مَوَالِيَهُ ، وَجَعَلَ يُظْهِرُ عَيْبَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَيَشْتُمُهُ ، وَيَذْكُرُ شُرْبَهُ الْخَمْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْهُ ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ ، فَيَقُومُ فِيهِمْ بَيْنَ الْأَيَّامِ فَيَذْكُرُ مَسَاوِيَ بَنِي أُمَيَّةَ ، فَيُطْنِبُ فِي ذَلِكَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ، فَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا مَغْلُولًا ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي خَيْلٍ مِنْ خَيْلِ الشَّامِ ، فَعَظَّمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْفِتْنَةَ ، وَقَالَ : لَأَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَرَمَ بِسَبَبِكَ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ تَارِكِكَ ، وَلَا تَقْوَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ لَجَّ فِي أَمْرِكَ ، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُؤْتَى بِكَ إِلَّا مَغْلُولًا ، وَقَدْ عَمِلْتُ لَكَ غُلًّا مِنْ فِضَّةٍ ، وَتَلْبَسُ فَوْقَهُ الثِّيَابَ ، وَتَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَالصُّلْحُ خَيْرُ عَاقِبَةٍ ، وَأَجْمَلُ بِكَ وَبِهِ . فَقَالَ : دَعُونِي أَيَّامًا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي . فَشَاوَرَ أُمَّهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ مَغْلُولًا ، وَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، عِشْ كَرِيمًا وَمُتْ كَرِيمًا ، وَلَا تُمَكِّنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ نَفْسِكَ فَتَلْعَبَ بِكَ ، فَالْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا . فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ فِي غُلٍّ ، وَامْتَنَعَ فِي مَوَالِيهِ وَمَنْ تَأَلَّفَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُمُ الزُّبَيْرِيَّةُ ، فَبَيْنَمَا يَزِيدُ عَلَى بِعْثَةِ الْجُيُوشِ إِلَيْهِ ، إِذْ أَتَى يَزِيدَ خَبَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا فَعَلُوا بِعَامِلِهِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ سَارَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ . وَكَانَ مُسْلِمٌ مَرِيضًا ، فِي بَطْنِهِ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ : إِنْ حَدَثَ بِكَ الْمَوْتُ ، فَوَلِّ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ الْكِنْدِيَّ عَلَى جَيْشِكَ . فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَقَاتَلُوهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَدَخَلَهَا ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مُسْرِفًا ، وَأَنْهَبَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، فَدَعَا الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ ، فَقَالَ لَهُ : يَا بَرْذَعَةَ الْحِمَارِ ، لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَتَزَوَّدَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَعْصِيَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَلَّيْتُكَ ، انْظُرْ إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ ، فَاحْذَرْ أَنْ تُمَكِّنَ قُرَيْشًا مِنْ أُذُنِكَ فَتَبُولَ فِيهَا ، لَا تَكُنْ إِلَّا الْوِقَافُ ، ثُمَّ الثِّقَافُ ، ثُمَّ الِانْصِرَافُ . فَتُوُفِّيَ مُسْلِمٌ الْمُسْرِفُ ، وَمَضَى الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ إِلَى مَكَّةَ ، فَقَاتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا أَيَّامًا ، وَجَمَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَصْحَابَهُ ، فَتَحَصَّنَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ، وَضَرَبَ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ خِيَامًا وَرِفَافًا يَكْتَنُّونَ فِيهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ ، وَيَسْتَظِلُّونَ فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ ، وَكَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَدْ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَعَلَى الْأَحْمَرِ ، وَهُمْ أَخْشَبَا مَكَّةَ ، فَكَانَ يَرْمِيهِمْ بِهَا ، فَتُصِيبُ الْحِجَارَةُ الْكَعْبَةَ حَتَّى تَخَرَّقَتْ كِسْوَتُهَا عَلَيْهَا ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا جُيُوبُ النِّسَاءِ ، فَوَهَنَ الرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ الْكَعْبَةَ ، فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُوقِدُ نَارًا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْخِيَامِ مِمَّا يَلِي الصَّفَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، وَالْمَسْجِدُ يَوْمَئِذٍ ضَيِّقٌ صَغِيرٌ ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فِي الْخَيْمَةِ فَاحْتَرَقَتْ ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رِيَاحٌ شَدِيدَةٌ ، وَالْكَعْبَةُ يَوْمَئِذٍ مَبْنِيَّةٌ بِنَاءَ قُرَيْشٍ ، مِدْمَاكٌ مِنْ سَاجٍ ، وَمِدْمَاكٌ مِنْ حِجَارَةٍ ، مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا وَعَلَيْهَا الْكِسْوَةُ ، فَطَارَتِ الرِّيَاحُ بِلَهَبِ تِلْكَ النَّارِ ؛ فَاحْتَرَقَتْ كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ ، وَاحْتَرَقَ السَّاجُ الَّذِي بَيْنَ الْبِنَاءِ ، وَكَانَ احْتِرَاقُهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَجَاءَ نَعْيُهُ فِي هِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَكَانَ تُوُفِّيَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ ، فَلَمَّا احْتَرَقَتِ الْكَعْبَةُ وَاحْتَرَقَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ فَتَصَدَّعَ ، كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدُ رَبَطَهُ بِالْفِضَّةِ ، فَضَعُفَتْ جِدَارَاتُ الْكَعْبَةِ ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَنْقَضُّ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا ، وَتَقَعُ الْحَمَامُ عَلَيْهَا فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهَا ، وَهِيَ مُجَرَّدَةٌ مُتَوَهِّنَةٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الشَّامِ جَمِيعًا ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ مُقِيمٌ مُحَاصِرٌ ابْنَ الزُّبَيْرِ ، فَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ ، إِلَى الْحُصَيْنِ ، فَكَلَّمُوهُ وَعَظَّمُوا عَلَيْهِ مَا أَصَابَ الْكَعْبَةَ ، وَقَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْكُمْ ، رَمَيْتُمُوهَا بِالنِّفْطِ . فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ، وَقَالُوا : قَدْ تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَعَلَى مَاذَا تُقَاتِلُ ؟ ارْجِعْ إِلَى الشَّامِ حَتَّى تَنْظُرَ مَاذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ رَأْيُ صَاحِبِكَ - يَعْنُونَ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ - وَهَلْ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ ؟ فَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى لَانَ لَهُمْ ، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ : أَرَاكَ تَتَّهِمُنِي فِي يَزِيدَ . وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الشَّامِ . فَلَمَّا أَدْبَرَ جَيْشُ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ، وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، دَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وُجُوهَ النَّاسِ وَأَشْرَافَهُمْ وَشَاوَرَهُمْ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ نَاسٌ غَيْرُ كَثِيرٍ بِهَدْمِهَا ، وَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ هَدْمَهَا ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ إِبَاءً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ لَهُ : دَعْهَا عَلَى مَا أَقَرَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكَ مَنْ يَهْدِمُهَا ، فَلَا تَزَالُ تُهْدَمُ وَتُبْنَى ، فَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ فِي حُرْمَتِهَا ، وَلَكِنِ ارْقَعْهَا ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : وَاللَّهِ مَا يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يُرَقِّعَ بَيْتَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ، فَكَيْفَ أُرَقِّعُ بَيْتَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَنْقَضُّ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ ، حَتَّى أنَّ الْحَمَامَ لَيَقَعُ عَلَيْهِ فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهُ . وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِهَدْمِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ جَاءَ مُعْتَمِرًا ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَأَقَامَ أَيَّامًا يُشَاوِرُ وَيَنْظُرُ ، ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَى هَدْمِهَا ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَرُدُّهَا عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلَى مَا وَصَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا بِالْوَرْسِ ، وَيُرْسِلَ إِلَى الْيَمَنِ فِي وَرْسٍ يُشْتَرَى لَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ الْوَرْسَ يَرْفِتُ وَيَذْهَبُ ، وَلَكِنِ ابْنِهَا بِالْقَصَّةِ . فَسَأَلَ عَنِ الْقَصَّةِ فَأُخْبِرَ أَنَّ قَصَّةَ صَنْعَاءَ هِيَ أَجْوَدُ قَصَّةٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَنْعَاءَ بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِينَارٍ يُشْتَرَى لَهُ بِهَا قَصَّةٌ وَيُكْتَرَى عَلَيْهَا ، وَأَمَرَ بِتَنْجِيحِ ذَلِكَ ، ثُمَّ سَأَلَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَيْنَ أَخَذَتْ قُرَيْشٌ حِجَارَتَهَا ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَقْلَعِهَا ، فَنُقِلَ لَهُ مِنَ الْحِجَارَةِ قَدْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحِجَارَةُ وَأَرَادَ هَدْمَهَا خَرَجَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهَا إِلَى مِنًى ، فَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثًا ؛ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ لِهَدْمِهَا ، فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَدْمِهَا ، فَمَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلَاهَا هُوَ بِنَفْسِهِ ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَجَعَلَ يَهْدِمُهَا وَيَرْمِي بِحِجَارَتِهَا ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ اجْتَرَءُوا ، فَصَعِدُوا يَهْدِمُونَهَا ، وَأَرْقَى ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَهَا عَبِيدًا مِنَ الْحَبَشِ يَهْدِمُونَهَا ؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ صِفَةُ الْحَبَشِيِّ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ " . قَالَ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ : كَأَنِّي بِهِ أُصَيْلِعُ أُفَيْدِعُ ، قَائِمٌ عَلَيْهَا يَهْدِمُهَا بِمِسْحَاتِهِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ جِئْتُ أَنْظُرُ ، هَلْ أَرَى الصِّفَةَ الَّتِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ؟ فَلَمْ أَرَهَا ، فَهَدَمُوهَا وَأَعَانَهُمُ النَّاسُ ، فَمَا تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَلْصَقَهَا كُلَّهَا بِالْأَرْضِ مِنْ جَوَانِبِهَا جَمِيعًا ، وَكَانَ هَدْمُهَا يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَلَمْ يَقْرَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَكَّةَ حِينَ هُدِمَتِ الْكَعْبَةُ حَتَّى فُرِغَ مِنْهَا ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ : لَا تَدَعِ النَّاسَ بِغَيْرِ قِبْلَةٍ ، انْصِبْ لَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ الْخَشَبَ ، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى يَطُوفَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهَا وَيُصَلُّوا إِلَيْهَا . فَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ . وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَعَجَزَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ ، فَتَرَكُوا فِي الْحِجْرِ مِنْهَا أَذْرُعًا ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَأَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهَا ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ ، بَابًا شَرْقِيًّا يَدْخُلُ مِنْهُ النَّاسُ ، وَبَابًا غَرْبِيًّا يَخْرُجُ مِنْهُ النَّاسُ ، وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا " ؟ قَالَتْ : قُلْتُ : لَا . قَالَ : " تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَرِهُوا أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ أَنْ يَرْتَقِيَ ، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ هَدْمُهَا ، فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا فِي الْحِجْرِ مِنْهَا " . فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ ، فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ وَسَوَّاهَا بِالْأَرْضِ كَشَفَ عَنْ أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ ، فَوَجَدُوهُ دَاخِلًا فِي الْحِجْرِ نَحْوًا مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ ، كَأَنَّهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ ، آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا ، كَتَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، يُحَرَّكُ الْحَجَرُ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَتَحَرَّكُ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا ، فَدَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَسَاسِ . قَالَ : فَأَدْخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَانَ أَيِّدًا - يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْعَدَوِيُّ - عَتَلَةً كَانَتْ فِي يَدِهِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ ، فَتَزَعْزَعَتِ الْأَرْكَانُ جَمِيعًا . وَيُقَالُ : إِنَّ مَكَّةَ كُلَّهَا رَجَفَتْ رَجْفَةً شَدِيدَةً حِينَ زُعْزِعَ الْأَسَاسُ ، وَخَافَ النَّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا ، حَتَّى نَدِمَ كُلُّ مَنْ كَانَ أَشَارَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِهَدْمِهَا ، وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ إِعْظَامًا شَدِيدًا ، وَأُسْقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : اشْهَدُوا . ثُمَّ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْأَسَاسِ ، وَوَضَعَ جِدَارَ الْبَابِ بَابِ الْكَعْبَةِ عَلَى مِدْمَاكٍ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ اللَّاصِقِ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلَ الْبَابَ الْآخَرَ بِإِزَائِهِ فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ مُقَابَلَةً ، وَجَعَلَ عَتَبَتَهُ عَلَى الْحَجَرِ الْأَخْضَرِ الطَّوِيلِ الَّذِي فِي الشَّاذَرْوَانِ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ قَرِيبًا مِنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، وَكَانَ الْبِنَاءُ يَبْنُونَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ ، وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ مِنْ خَارِجٍ ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَ الْبَيْتَ جَعَلَ الرُّكْنَ فِي دِيبَاجَةٍ ، وَأَدْخَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَأَقْفَلَ عَلَيْهِ ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَعَمَدَ إِلَى مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حِلْيَةٍ فَوَضَعَهَا فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ ، فِي دَارِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبِنَاءُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَوْضِعِهِ ، فَنُقِرَ فِي حَجَرَيْنِ : حَجَرٍ مِنَ الْمِدْمَاكِ الَّذِي تَحْتَهُ ، وَحَجَرٍ مِنَ الْمِدْمَاكِ الَّذِي فَوْقَهُ ، بِقَدْرِ الرُّكْنِ ، وَطُوبِقَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَهُ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَجُبَيْرَ بْنَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ أَنْ يَجْعَلُوا الرُّكْنَ فِي ثَوْبٍ ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : إِذَا دَخَلْتُ فِي الصَّلَاةِ - صَلَاةِ الظُّهْرِ - فَاحْمِلُوهَا وَاجْعَلُوهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَأَنَا أُطَوِّلُ الصَّلَاةَ ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَكَبِّرُوا حَتَّى أُخَفِّفَ صَلَاتِي . وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، فَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ كَبَّرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، خَرَجَ عَبَّادٌ بِالرُّكْنِ مِنْ دَارِ النَّدْوَةِ وَهُوَ يَحْمِلُهُ وَمَعَهُ جُبَيْرُ بْنُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَدَارُ النَّدْوَةِ يَوْمَئِذٍ قَرِيبَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ ، فَخَرَقَا بِهِ الصُّفُوفَ حَتَّى أَدْخَلَاهُ فِي السِّتْرِ الَّذِي دُونَ الْبِنَاءِ ، فَكَانَ الَّذِي وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ هَذَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ جُبَيْرُ بْنُ شَيْبَةَ ، فَلَمَّا أَقَرُّوهُ فِي مَوْضِعِهِ وَطُوبِقَ عَلَيْهِ الْحَجَرَانِ كَبَّرُوا ، فَخَفَّفَ ابْنُ الزُّبَيْرِ صَلَاتَهُ ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَغَضِبَتْ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يُحْضِرْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَقَالُوا : وَاللَّهِ لَقَدْ رُفِعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَحَكَّمُوا فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ، فَطَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَعَلَهُ فِي رِدَائِهِ ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلًا ، فَأَخَذُوا بِأَرْكَانِ الثَّوْبِ ، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعِهِ . وَكَانَ الرُّكْنُ قَدْ تَصَدَّعَ مِنَ الْحَرِيقِ بِثَلَاثِ فِرَقٍ ، فَانْشَظَتْ مِنْهُ شَظِيَّةٌ كَانَتْ عِنْدَ بَعْضِ آلِ شَيْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ ، فَشَدَّهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْفِضَّةِ إِلَّا تِلْكَ الشَّظِيَّةَ مِنْ أَعْلَاهُ ، مَوْضِعُهَا بَيِّنٌ فِي أَعْلَى الرُّكْنِ ، وَطُولُ الرُّكْنِ ذِرَاعَانِ ، قَدْ أَخَذَ عَرْضَ جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، وَمُؤَخَّرُ الرُّكْنِ دَاخِلُهُ فِي الْجَدْرِ ، مُضَرَّسٌ عَلَى ثَلَاثَةِ رُؤُوسٍ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : فَسَمِعْتُ مَنْ يَصِفُ لَوْنَ مُؤَخَّرِهِ الَّذِي فِي الْجَدْرِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مُوَرَّدٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَبْيَضٌ . قَالُوا : وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ يَوْمَ هَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْبِنَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، قَصُرَتْ بِحَالِ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَ مِنَ الْحِجْرِ فِيهَا ، وَاسْتُسْمِجَ ذَلِكَ إِذْ صَارَتْ عَرِيضَةً لَا طُولَ لَهَا ، فَقَالَ : قَدْ كَانَتْ قَبْلَ قُرَيْشٍ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ حَتَّى زَادَتْ قُرَيْشٌ فِيهَا تِسْعَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي السَّمَاءِ ، فَأَنَا أَزِيدُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ أُخْرَى . فَبَنَاهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِدْمَاكًا ، وَعَرْضُ جِدَارِهَا ذِرَاعَانِ ، وَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ دَعَائِمَ ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَعَلَتْ فِيهَا سِتَّ دَعَائِمَ ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى صَنْعَاءَ ، فَأَتَى مِنْ رُخَامٍ بِهَا يُقَالُ لَهُ الْبَلَقُ ، فَجَعَلَهُ فِي الرَّوَازِنِ الَّتِي فِي سَقْفِهَا لِلضَّوْءِ ، وَكَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ قَبْلَ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِصْرَاعًا وَاحِدًا ، فَجَعَلَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِصْرَاعَيْنِ ، طُولُهُمَا أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى أَعْلَاهُمَا الْيَوْمَ ، وَجَعَلَ الْبَابَ الْآخَرَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا بِإِزَائِهِ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ الَّذِي عَلَى الْأَسَاسِ مِثْلَهُ ، وَجَعَلَ مِيزَابَهَا يَسْكُبُ فِي الْحِجْرِ ، وَجَعَلَ لَهَا دَرَجَةً فِي بَطْنِهَا فِي الرُّكْنِ الشَّامِيِّ مِنْ خَشَبٍ مُعَرَّجَةٍ ، يُصْعَدُ فِيهَا إِلَى ظَهْرِهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، خَلَّقَهَا مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا ، مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا ، وَكَسَاهَا الْقَبَاطِيَّ ، وَقَالَ : مَنْ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَلْيَخْرُجْ ، فَلْيَعْتَمِرْ مِنَ التَّنْعِيمِ ، فَمَنْ قَدَرَ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَدَنَةٍ فَلْيَذْبَحْ شَاةً ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِقَدْرِ طُولِهِ . وَخَرَجَ مَاشِيًا ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ مُشَاةً ، حَتَّى اعْتَمَرُوا مِنَ التَّنْعِيمِ ؛ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَمْ يُرَ يَوْمٌ كَانَ أَكْثَرَ عَتِيقًا ، وَلَا أَكْثَرَ بَدَنَةً مَنْحُورَةً ، وَلَا شَاةً مَذْبُوحَةً ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَنَحَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَلَمَّا طَافَ بِالْكَعْبَةِ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ جَمِيعًا ، وَقَالَ : إِنَّمَا كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيِّ وَالْغَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَكُنْ تَامًّا . فَلَمْ يَزَلِ الْبَيْتُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، إِذَا طَافَ بِهِ الطَّائِفُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ جَمِيعًا ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ الْغَرْبِيِّ ، وَأَبْوَابُهُ لَاصِقَةٌ بِالْأَرْضِ ، حَتَّى قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ مَكَّةَ ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ زَادَ فِي الْبَيْتِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَحْدَثَ فِيهِ بَابًا آخَرَ . فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي رَدِّ الْبَيْتِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ سُدَّ بَابَهَا الْغَرْبِيَّ الَّذِي كَانَ فَتْحَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَاهْدِمْ مَا كَانَ زَادَ فِيهَا مِنَ الْحَجَرِ ، وَاكْبِسْهَا بِهِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ . فَهَدَمَ الْحَجَّاجُ مِنْهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ ، وَبَنَاهَا عَلَى أَسَاسِ قُرَيْشٍ الَّذِي كَانَتِ اسْتَقْصَرَتْ عَلَيْهِ ، وَكَبَسَهَا بِمَا هَدَمَ مِنْهَا ، وَسَدَّ الْبَابَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا ، وَتَرَكَ سَائِرَهَا لَمْ يُحَرِّكْ مِنْهَا شَيْئًا ، فَكُلُّ شَيْءٍ فِيهَا الْيَوْمَ بِنَاءُ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا الْجَدْرَ الَّذِي فِي الْحِجْرِ ، فَإِنَّهُ بِنَاءُ الْحَجَّاجِ . وَسَدَّ الْبَابَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا ، وَمَا تَحْتَ عَتَبَةِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ الْيَوْمَ إِلَى الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ ، كُلُّ هَذَا بِنَاءُ الْحَجَّاجِ ، وَالدَّرَجَةُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْيَوْمَ وَالْبَابَانِ اللَّذَانِ عَلَيْهَا الْيَوْمَ هُمَا أَيْضًا مِنْ عَمَلِ الْحَجَّاجِ ، فَلَمَّا فَرَغَ الْحَجَّاجُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَفَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ : مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ - سَمِعَ مِنَ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا فِي أَمْرِ الْكَعْبَةِ . فَقَالَ الْحَارِثُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ عَائِشَةَ . قَالَ : سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا ؟ قَالَ : سَمِعْتُهَا تَقُولُ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ أَعَدْتُ فِيهِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ " . فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ : بَابًا شَرْقِيًّا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ ، وَبَابًا غَرْبِيًّا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْهُ " قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ : أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْهَا . قَالَ : فَجَعَلَ يَنْكُتُ مُنَكِّسًا بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ سَاعَةً طَوِيلَةً ، ثُمَّ قَالَ : وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي تَرَكْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا تَحَمَّلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَكَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ الَّذِي عَمِلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا كَانَ الْحَجَّاجُ نَقَضَ مِنَ الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا ، عَمِلَ لَهَا هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ وَطَوَّلَهُمَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعَثَ إِلَى وَالِيهِ عَلَى مَكَّةَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَضَرَبَ مِنْهَا عَلَى بَابَيِ الْكَعْبَةِ صَفَائِحَ الذَّهَبِ ، وَعَلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ ، وَعَلَى الْأَسَاطِينِ الَّتِي فِي بَطْنِهَا ، وَعَلَى الْأَرْكَانِ فِي جَوْفِهَا
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ : حَدَّثَنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ حَضَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَ الْكَعْبَةَ وَبَنَاهَا قَالُوا : لَمَّا أَبْطَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، وَتَخَلَّفَ وَخَشِيَ مِنْهُمْ ، لَحِقَ بِمَكَّةَ لِيَمْتَنِعَ بِالْحَرَمِ ، وَجَمَعَ مَوَالِيَهُ ، وَجَعَلَ يُظْهِرُ عَيْبَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَيَشْتُمُهُ ، وَيَذْكُرُ شُرْبَهُ الْخَمْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَيُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْهُ ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ ، فَيَقُومُ فِيهِمْ بَيْنَ الْأَيَّامِ فَيَذْكُرُ مَسَاوِيَ بَنِي أُمَيَّةَ ، فَيُطْنِبُ فِي ذَلِكَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ، فَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا مَغْلُولًا ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي خَيْلٍ مِنْ خَيْلِ الشَّامِ ، فَعَظَّمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْفِتْنَةَ ، وَقَالَ : لَأَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَرَمَ بِسَبَبِكَ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ تَارِكِكَ ، وَلَا تَقْوَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ لَجَّ فِي أَمْرِكَ ، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُؤْتَى بِكَ إِلَّا مَغْلُولًا ، وَقَدْ عَمِلْتُ لَكَ غُلًّا مِنْ فِضَّةٍ ، وَتَلْبَسُ فَوْقَهُ الثِّيَابَ ، وَتَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَالصُّلْحُ خَيْرُ عَاقِبَةٍ ، وَأَجْمَلُ بِكَ وَبِهِ . فَقَالَ : دَعُونِي أَيَّامًا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي . فَشَاوَرَ أُمَّهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ مَغْلُولًا ، وَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ ، عِشْ كَرِيمًا وَمُتْ كَرِيمًا ، وَلَا تُمَكِّنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ نَفْسِكَ فَتَلْعَبَ بِكَ ، فَالْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا . فَأَبَى عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِ فِي غُلٍّ ، وَامْتَنَعَ فِي مَوَالِيهِ وَمَنْ تَأَلَّفَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُمُ الزُّبَيْرِيَّةُ ، فَبَيْنَمَا يَزِيدُ عَلَى بِعْثَةِ الْجُيُوشِ إِلَيْهِ ، إِذْ أَتَى يَزِيدَ خَبَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا فَعَلُوا بِعَامِلِهِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ فِي أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ سَارَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ . وَكَانَ مُسْلِمٌ مَرِيضًا ، فِي بَطْنِهِ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ : إِنْ حَدَثَ بِكَ الْمَوْتُ ، فَوَلِّ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ الْكِنْدِيَّ عَلَى جَيْشِكَ . فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَقَاتَلُوهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَظَفِرَ بِهِمْ وَدَخَلَهَا ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مُسْرِفًا ، وَأَنْهَبَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، فَدَعَا الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ ، فَقَالَ لَهُ : يَا بَرْذَعَةَ الْحِمَارِ ، لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَتَزَوَّدَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَعْصِيَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَلَّيْتُكَ ، انْظُرْ إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ ، فَاحْذَرْ أَنْ تُمَكِّنَ قُرَيْشًا مِنْ أُذُنِكَ فَتَبُولَ فِيهَا ، لَا تَكُنْ إِلَّا الْوِقَافُ ، ثُمَّ الثِّقَافُ ، ثُمَّ الِانْصِرَافُ . فَتُوُفِّيَ مُسْلِمٌ الْمُسْرِفُ ، وَمَضَى الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ إِلَى مَكَّةَ ، فَقَاتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا أَيَّامًا ، وَجَمَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَصْحَابَهُ ، فَتَحَصَّنَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ، وَضَرَبَ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ خِيَامًا وَرِفَافًا يَكْتَنُّونَ فِيهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ ، وَيَسْتَظِلُّونَ فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ ، وَكَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَدْ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَعَلَى الْأَحْمَرِ ، وَهُمْ أَخْشَبَا مَكَّةَ ، فَكَانَ يَرْمِيهِمْ بِهَا ، فَتُصِيبُ الْحِجَارَةُ الْكَعْبَةَ حَتَّى تَخَرَّقَتْ كِسْوَتُهَا عَلَيْهَا ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا جُيُوبُ النِّسَاءِ ، فَوَهَنَ الرَّمْيُ بِالْمَنْجَنِيقِ الْكَعْبَةَ ، فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُوقِدُ نَارًا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْخِيَامِ مِمَّا يَلِي الصَّفَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، وَالْمَسْجِدُ يَوْمَئِذٍ ضَيِّقٌ صَغِيرٌ ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فِي الْخَيْمَةِ فَاحْتَرَقَتْ ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رِيَاحٌ شَدِيدَةٌ ، وَالْكَعْبَةُ يَوْمَئِذٍ مَبْنِيَّةٌ بِنَاءَ قُرَيْشٍ ، مِدْمَاكٌ مِنْ سَاجٍ ، وَمِدْمَاكٌ مِنْ حِجَارَةٍ ، مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا وَعَلَيْهَا الْكِسْوَةُ ، فَطَارَتِ الرِّيَاحُ بِلَهَبِ تِلْكَ النَّارِ ؛ فَاحْتَرَقَتْ كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ ، وَاحْتَرَقَ السَّاجُ الَّذِي بَيْنَ الْبِنَاءِ ، وَكَانَ احْتِرَاقُهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَجَاءَ نَعْيُهُ فِي هِلَالِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَكَانَ تُوُفِّيَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ ، فَلَمَّا احْتَرَقَتِ الْكَعْبَةُ وَاحْتَرَقَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ فَتَصَدَّعَ ، كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدُ رَبَطَهُ بِالْفِضَّةِ ، فَضَعُفَتْ جِدَارَاتُ الْكَعْبَةِ ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَنْقَضُّ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا ، وَتَقَعُ الْحَمَامُ عَلَيْهَا فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهَا ، وَهِيَ مُجَرَّدَةٌ مُتَوَهِّنَةٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الشَّامِ جَمِيعًا ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ مُقِيمٌ مُحَاصِرٌ ابْنَ الزُّبَيْرِ ، فَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ ، إِلَى الْحُصَيْنِ ، فَكَلَّمُوهُ وَعَظَّمُوا عَلَيْهِ مَا أَصَابَ الْكَعْبَةَ ، وَقَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْكُمْ ، رَمَيْتُمُوهَا بِالنِّفْطِ . فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ، وَقَالُوا : قَدْ تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَعَلَى مَاذَا تُقَاتِلُ ؟ ارْجِعْ إِلَى الشَّامِ حَتَّى تَنْظُرَ مَاذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ رَأْيُ صَاحِبِكَ - يَعْنُونَ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ - وَهَلْ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ ؟ فَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى لَانَ لَهُمْ ، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ : أَرَاكَ تَتَّهِمُنِي فِي يَزِيدَ . وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الشَّامِ . فَلَمَّا أَدْبَرَ جَيْشُ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ، وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، دَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وُجُوهَ النَّاسِ وَأَشْرَافَهُمْ وَشَاوَرَهُمْ فِي هَدْمِ الْكَعْبَةِ ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ نَاسٌ غَيْرُ كَثِيرٍ بِهَدْمِهَا ، وَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ هَدْمَهَا ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ إِبَاءً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ لَهُ : دَعْهَا عَلَى مَا أَقَرَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكَ مَنْ يَهْدِمُهَا ، فَلَا تَزَالُ تُهْدَمُ وَتُبْنَى ، فَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ فِي حُرْمَتِهَا ، وَلَكِنِ ارْقَعْهَا ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : وَاللَّهِ مَا يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يُرَقِّعَ بَيْتَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ، فَكَيْفَ أُرَقِّعُ بَيْتَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَنْقَضُّ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ ، حَتَّى أنَّ الْحَمَامَ لَيَقَعُ عَلَيْهِ فَتَتَنَاثَرُ حِجَارَتُهُ . وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِهَدْمِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانَ جَاءَ مُعْتَمِرًا ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَأَقَامَ أَيَّامًا يُشَاوِرُ وَيَنْظُرُ ، ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَى هَدْمِهَا ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَرُدُّهَا عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلَى مَا وَصَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا بِالْوَرْسِ ، وَيُرْسِلَ إِلَى الْيَمَنِ فِي وَرْسٍ يُشْتَرَى لَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ الْوَرْسَ يَرْفِتُ وَيَذْهَبُ ، وَلَكِنِ ابْنِهَا بِالْقَصَّةِ . فَسَأَلَ عَنِ الْقَصَّةِ فَأُخْبِرَ أَنَّ قَصَّةَ صَنْعَاءَ هِيَ أَجْوَدُ قَصَّةٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَنْعَاءَ بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِينَارٍ يُشْتَرَى لَهُ بِهَا قَصَّةٌ وَيُكْتَرَى عَلَيْهَا ، وَأَمَرَ بِتَنْجِيحِ ذَلِكَ ، ثُمَّ سَأَلَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أَيْنَ أَخَذَتْ قُرَيْشٌ حِجَارَتَهَا ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَقْلَعِهَا ، فَنُقِلَ لَهُ مِنَ الْحِجَارَةِ قَدْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحِجَارَةُ وَأَرَادَ هَدْمَهَا خَرَجَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْهَا إِلَى مِنًى ، فَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثًا ؛ فَرَقًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ لِهَدْمِهَا ، فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَدْمِهَا ، فَمَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلَاهَا هُوَ بِنَفْسِهِ ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَجَعَلَ يَهْدِمُهَا وَيَرْمِي بِحِجَارَتِهَا ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ اجْتَرَءُوا ، فَصَعِدُوا يَهْدِمُونَهَا ، وَأَرْقَى ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَهَا عَبِيدًا مِنَ الْحَبَشِ يَهْدِمُونَهَا ؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ صِفَةُ الْحَبَشِيِّ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ . قَالَ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ : كَأَنِّي بِهِ أُصَيْلِعُ أُفَيْدِعُ ، قَائِمٌ عَلَيْهَا يَهْدِمُهَا بِمِسْحَاتِهِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ جِئْتُ أَنْظُرُ ، هَلْ أَرَى الصِّفَةَ الَّتِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ؟ فَلَمْ أَرَهَا ، فَهَدَمُوهَا وَأَعَانَهُمُ النَّاسُ ، فَمَا تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَلْصَقَهَا كُلَّهَا بِالْأَرْضِ مِنْ جَوَانِبِهَا جَمِيعًا ، وَكَانَ هَدْمُهَا يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ ، وَلَمْ يَقْرَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَكَّةَ حِينَ هُدِمَتِ الْكَعْبَةُ حَتَّى فُرِغَ مِنْهَا ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ : لَا تَدَعِ النَّاسَ بِغَيْرِ قِبْلَةٍ ، انْصِبْ لَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ الْخَشَبَ ، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى يَطُوفَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهَا وَيُصَلُّوا إِلَيْهَا . فَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ . وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَعَجَزَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ ، فَتَرَكُوا فِي الْحِجْرِ مِنْهَا أَذْرُعًا ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَأَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهَا ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ ، بَابًا شَرْقِيًّا يَدْخُلُ مِنْهُ النَّاسُ ، وَبَابًا غَرْبِيًّا يَخْرُجُ مِنْهُ النَّاسُ ، وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا ؟ قَالَتْ : قُلْتُ : لَا . قَالَ : تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَرِهُوا أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ أَنْ يَرْتَقِيَ ، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ هَدْمُهَا ، فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا فِي الْحِجْرِ مِنْهَا . فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ ، فَلَمَّا هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ وَسَوَّاهَا بِالْأَرْضِ كَشَفَ عَنْ أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ ، فَوَجَدُوهُ دَاخِلًا فِي الْحِجْرِ نَحْوًا مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ ، كَأَنَّهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ ، آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا ، كَتَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، يُحَرَّكُ الْحَجَرُ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَتَحَرَّكُ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا ، فَدَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَسَاسِ . قَالَ : فَأَدْخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَانَ أَيِّدًا - يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْعَدَوِيُّ - عَتَلَةً كَانَتْ فِي يَدِهِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ ، فَتَزَعْزَعَتِ الْأَرْكَانُ جَمِيعًا . وَيُقَالُ : إِنَّ مَكَّةَ كُلَّهَا رَجَفَتْ رَجْفَةً شَدِيدَةً حِينَ زُعْزِعَ الْأَسَاسُ ، وَخَافَ النَّاسُ خَوْفًا شَدِيدًا ، حَتَّى نَدِمَ كُلُّ مَنْ كَانَ أَشَارَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِهَدْمِهَا ، وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ إِعْظَامًا شَدِيدًا ، وَأُسْقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : اشْهَدُوا . ثُمَّ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْأَسَاسِ ، وَوَضَعَ جِدَارَ الْبَابِ بَابِ الْكَعْبَةِ عَلَى مِدْمَاكٍ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ اللَّاصِقِ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلَ الْبَابَ الْآخَرَ بِإِزَائِهِ فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ مُقَابَلَةً ، وَجَعَلَ عَتَبَتَهُ عَلَى الْحَجَرِ الْأَخْضَرِ الطَّوِيلِ الَّذِي فِي الشَّاذَرْوَانِ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ قَرِيبًا مِنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ ، وَكَانَ الْبِنَاءُ يَبْنُونَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ ، وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ مِنْ خَارِجٍ ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَ الْبَيْتَ جَعَلَ الرُّكْنَ فِي دِيبَاجَةٍ ، وَأَدْخَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَأَقْفَلَ عَلَيْهِ ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَعَمَدَ إِلَى مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حِلْيَةٍ فَوَضَعَهَا فِي خِزَانَةِ الْكَعْبَةِ ، فِي دَارِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبِنَاءُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَوْضِعِهِ ، فَنُقِرَ فِي حَجَرَيْنِ : حَجَرٍ مِنَ الْمِدْمَاكِ الَّذِي تَحْتَهُ ، وَحَجَرٍ مِنَ الْمِدْمَاكِ الَّذِي فَوْقَهُ ، بِقَدْرِ الرُّكْنِ ، وَطُوبِقَ بَيْنَهُمَا ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَهُ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَجُبَيْرَ بْنَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ أَنْ يَجْعَلُوا الرُّكْنَ فِي ثَوْبٍ ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : إِذَا دَخَلْتُ فِي الصَّلَاةِ - صَلَاةِ الظُّهْرِ - فَاحْمِلُوهَا وَاجْعَلُوهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَأَنَا أُطَوِّلُ الصَّلَاةَ ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَكَبِّرُوا حَتَّى أُخَفِّفَ صَلَاتِي . وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، فَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ كَبَّرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، خَرَجَ عَبَّادٌ بِالرُّكْنِ مِنْ دَارِ النَّدْوَةِ وَهُوَ يَحْمِلُهُ وَمَعَهُ جُبَيْرُ بْنُ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ ، وَدَارُ النَّدْوَةِ يَوْمَئِذٍ قَرِيبَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ ، فَخَرَقَا بِهِ الصُّفُوفَ حَتَّى أَدْخَلَاهُ فِي السِّتْرِ الَّذِي دُونَ الْبِنَاءِ ، فَكَانَ الَّذِي وَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ هَذَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ جُبَيْرُ بْنُ شَيْبَةَ ، فَلَمَّا أَقَرُّوهُ فِي مَوْضِعِهِ وَطُوبِقَ عَلَيْهِ الْحَجَرَانِ كَبَّرُوا ، فَخَفَّفَ ابْنُ الزُّبَيْرِ صَلَاتَهُ ، وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَغَضِبَتْ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يُحْضِرْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَقَالُوا : وَاللَّهِ لَقَدْ رُفِعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَحَكَّمُوا فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ، فَطَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، فَجَعَلَهُ فِي رِدَائِهِ ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلًا ، فَأَخَذُوا بِأَرْكَانِ الثَّوْبِ ، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي مَوْضِعِهِ . وَكَانَ الرُّكْنُ قَدْ تَصَدَّعَ مِنَ الْحَرِيقِ بِثَلَاثِ فِرَقٍ ، فَانْشَظَتْ مِنْهُ شَظِيَّةٌ كَانَتْ عِنْدَ بَعْضِ آلِ شَيْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ ، فَشَدَّهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْفِضَّةِ إِلَّا تِلْكَ الشَّظِيَّةَ مِنْ أَعْلَاهُ ، مَوْضِعُهَا بَيِّنٌ فِي أَعْلَى الرُّكْنِ ، وَطُولُ الرُّكْنِ ذِرَاعَانِ ، قَدْ أَخَذَ عَرْضَ جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، وَمُؤَخَّرُ الرُّكْنِ دَاخِلُهُ فِي الْجَدْرِ ، مُضَرَّسٌ عَلَى ثَلَاثَةِ رُؤُوسٍ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : فَسَمِعْتُ مَنْ يَصِفُ لَوْنَ مُؤَخَّرِهِ الَّذِي فِي الْجَدْرِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مُوَرَّدٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَبْيَضٌ . قَالُوا : وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ يَوْمَ هَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْبِنَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، قَصُرَتْ بِحَالِ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَ مِنَ الْحِجْرِ فِيهَا ، وَاسْتُسْمِجَ ذَلِكَ إِذْ صَارَتْ عَرِيضَةً لَا طُولَ لَهَا ، فَقَالَ : قَدْ كَانَتْ قَبْلَ قُرَيْشٍ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ حَتَّى زَادَتْ قُرَيْشٌ فِيهَا تِسْعَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي السَّمَاءِ ، فَأَنَا أَزِيدُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ أُخْرَى . فَبَنَاهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، وَهِيَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِدْمَاكًا ، وَعَرْضُ جِدَارِهَا ذِرَاعَانِ ، وَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ دَعَائِمَ ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَعَلَتْ فِيهَا سِتَّ دَعَائِمَ ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى صَنْعَاءَ ، فَأَتَى مِنْ رُخَامٍ بِهَا يُقَالُ لَهُ الْبَلَقُ ، فَجَعَلَهُ فِي الرَّوَازِنِ الَّتِي فِي سَقْفِهَا لِلضَّوْءِ ، وَكَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ قَبْلَ بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِصْرَاعًا وَاحِدًا ، فَجَعَلَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِصْرَاعَيْنِ ، طُولُهُمَا أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى أَعْلَاهُمَا الْيَوْمَ ، وَجَعَلَ الْبَابَ الْآخَرَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا بِإِزَائِهِ عَلَى الشَّاذَرْوَانِ الَّذِي عَلَى الْأَسَاسِ مِثْلَهُ ، وَجَعَلَ مِيزَابَهَا يَسْكُبُ فِي الْحِجْرِ ، وَجَعَلَ لَهَا دَرَجَةً فِي بَطْنِهَا فِي الرُّكْنِ الشَّامِيِّ مِنْ خَشَبٍ مُعَرَّجَةٍ ، يُصْعَدُ فِيهَا إِلَى ظَهْرِهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، خَلَّقَهَا مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا ، مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا ، وَكَسَاهَا الْقَبَاطِيَّ ، وَقَالَ : مَنْ كَانَتْ لِي عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَلْيَخْرُجْ ، فَلْيَعْتَمِرْ مِنَ التَّنْعِيمِ ، فَمَنْ قَدَرَ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَدَنَةٍ فَلْيَذْبَحْ شَاةً ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَتَصَدَّقْ بِقَدْرِ طُولِهِ . وَخَرَجَ مَاشِيًا ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ مُشَاةً ، حَتَّى اعْتَمَرُوا مِنَ التَّنْعِيمِ ؛ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَمْ يُرَ يَوْمٌ كَانَ أَكْثَرَ عَتِيقًا ، وَلَا أَكْثَرَ بَدَنَةً مَنْحُورَةً ، وَلَا شَاةً مَذْبُوحَةً ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَنَحَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَلَمَّا طَافَ بِالْكَعْبَةِ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ جَمِيعًا ، وَقَالَ : إِنَّمَا كَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيِّ وَالْغَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَكُنْ تَامًّا . فَلَمْ يَزَلِ الْبَيْتُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، إِذَا طَافَ بِهِ الطَّائِفُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ جَمِيعًا ، وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ الْغَرْبِيِّ ، وَأَبْوَابُهُ لَاصِقَةٌ بِالْأَرْضِ ، حَتَّى قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ مَكَّةَ ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ زَادَ فِي الْبَيْتِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَحْدَثَ فِيهِ بَابًا آخَرَ . فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي رَدِّ الْبَيْتِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ سُدَّ بَابَهَا الْغَرْبِيَّ الَّذِي كَانَ فَتْحَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَاهْدِمْ مَا كَانَ زَادَ فِيهَا مِنَ الْحَجَرِ ، وَاكْبِسْهَا بِهِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ . فَهَدَمَ الْحَجَّاجُ مِنْهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ ، وَبَنَاهَا عَلَى أَسَاسِ قُرَيْشٍ الَّذِي كَانَتِ اسْتَقْصَرَتْ عَلَيْهِ ، وَكَبَسَهَا بِمَا هَدَمَ مِنْهَا ، وَسَدَّ الْبَابَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا ، وَتَرَكَ سَائِرَهَا لَمْ يُحَرِّكْ مِنْهَا شَيْئًا ، فَكُلُّ شَيْءٍ فِيهَا الْيَوْمَ بِنَاءُ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا الْجَدْرَ الَّذِي فِي الْحِجْرِ ، فَإِنَّهُ بِنَاءُ الْحَجَّاجِ . وَسَدَّ الْبَابَ الَّذِي فِي ظَهْرِهَا ، وَمَا تَحْتَ عَتَبَةِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ الْيَوْمَ إِلَى الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ ، كُلُّ هَذَا بِنَاءُ الْحَجَّاجِ ، وَالدَّرَجَةُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا الْيَوْمَ وَالْبَابَانِ اللَّذَانِ عَلَيْهَا الْيَوْمَ هُمَا أَيْضًا مِنْ عَمَلِ الْحَجَّاجِ ، فَلَمَّا فَرَغَ الْحَجَّاجُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَفَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ : مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ - سَمِعَ مِنَ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهَا فِي أَمْرِ الْكَعْبَةِ . فَقَالَ الْحَارِثُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ عَائِشَةَ . قَالَ : سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا ؟ قَالَ : سَمِعْتُهَا تَقُولُ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ أَعَدْتُ فِيهِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ . فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ : بَابًا شَرْقِيًّا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ ، وَبَابًا غَرْبِيًّا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ : أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْهَا . قَالَ : فَجَعَلَ يَنْكُتُ مُنَكِّسًا بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ سَاعَةً طَوِيلَةً ، ثُمَّ قَالَ : وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي تَرَكْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَمَا تَحَمَّلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَكَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ الَّذِي عَمِلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا كَانَ الْحَجَّاجُ نَقَضَ مِنَ الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا ، عَمِلَ لَهَا هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ وَطَوَّلَهُمَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَشِبْرًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَعَثَ إِلَى وَالِيهِ عَلَى مَكَّةَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَضَرَبَ مِنْهَا عَلَى بَابَيِ الْكَعْبَةِ صَفَائِحَ الذَّهَبِ ، وَعَلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ ، وَعَلَى الْأَسَاطِينِ الَّتِي فِي بَطْنِهَا ، وَعَلَى الْأَرْكَانِ فِي جَوْفِهَا قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : قَالَ جَدِّي : فَكُلُّ مَا كَانَ عَلَى الْمِيزَابِ وَعَلَى الْأَرْكَانِ فِي جَوْفِهَا مِنَ الذَّهَبِ ، فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ذَهَّبَ الْبَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى الْبَابِ مِنْ عَمَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الذَّهَبِ ، فَإِنَّهُ رَقَّ وَتَفَرَّقَ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ فِي خِلَافَتِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى سَالِمِ بْنِ الْجَرَّاحِ ، عَامِلٍ كَانَ لَهُ عَلَى صَوَافِي مَكَّةَ ، بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، لِيَضْرِبَ بِهَا صَفَائِحَ الذَّهَبِ عَلَى بَابَيِ الْكَعْبَةِ ، فَقَلَعَ مَا كَانَ عَلَى الْبَابِ مِنَ الصَّفَائِحِ ، وَزَادَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ الصَّفَائِحَ الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَالْمَسَامِيرُ وَحَلْقَتَا بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَعَلَى الْفَيَارِيزِ وَالْعَتَبِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ ، وَلَمْ يَقْلَعْ فِي ذَلِكَ بَابَيِ الْكَعْبَةِ ، وَلَكِنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمَا الصَّفَائِحُ وَالْمَسَامِيرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : أَخْبَرَنِي الْمُثَنَّى بْنُ جُبَيْرٍ الصَّوَّافُ أَنَّهُمْ حِينَ فَرَّقُوا ذَهَبَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَجَدُوا فِيهِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ مِثْقَالٍ ، فَزَادُوا عَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَأَنَّ الَّذِي عَلَى الْبَابِ مِنَ الذَّهَبِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ . وَقَالُوا أَيْضًا : إِنَّهُ لَمَّا قُلِعَ الذَّهَبُ عَنِ الْبَابِ أُلْبِسَ الْبَابُ ثَوْبًا أَصْفَرَ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَعَمِلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّخَامَ الْأَحْمَرَ وَالْأَخْضَرَ وَالْأَبْيَضَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا ، مُؤَزِّرًا بِهِ جُدُرَاتِهَا ، وَفَرَشَهَا بِالرُّخَامِ ، وَأَرْسَلَ بِهِ مِنَ الشَّامِ ، وَجَعَلَ الْجَزْعَةَ الَّتِي تَلْقَى مَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ قَامَ يَتَوَخَّى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي مَوْضِعِهَا ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ . فَجَمِيعُ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الرُّخَامِ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَرَشَهَا بِالرُّخَامِ وَأَزَّرَ بِهِ جُدُرَاتِهَا ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ