" أَنَّ يُوسُفَ ذَا نُوَاسٍ - وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ الَّذِي حَرَقَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِنَجْرَانَ - لَمَّا أَغْرَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَجَاءَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى أَرْضِ الْيَمَنِ ، فَعَبَرُوا مِنْ دَهْلَكٍ حَتَّى دَخَلُوا صَنْعَاءَ ، وَحَرَقُوا غُمْدَانَ ، وَكَانَ أَعْظَمَ قَصْرٍ يُعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ، وَغَلَبُوا عَلَى الْيَمَنِ ، وَبَنَى أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ الْقُلَّيْسَ لِلنَّجَاشِيِّ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بِصَنْعَاءَ بَيْتًا لَمْ تَبْنِ الْعَرَبُ وَلَا الْعَجَمُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ أَنْتَهِيَ حَتَّى أَصْرِفَ حَاجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهِ ، وَيَتْرُكُوا الْحَجَّ إِلَى بَيْتِهِمْ . فَبَنَى الْقُلَّيْسَ بِحِجَارَةِ قَصْرِ بِلْقِيسَ الَّذِي بِمَأْرِبٍ ، وَبِلْقِيسُ صَاحِبَةُ الصَّرْحِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ حِينَ تَزَوَّجَهَا يَنْزِلُ عَلَيْهَا فِيهِ إِذَا جَاءَهَا ، فَوَضَعَ الرِّجَالُ نَسَقًا يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْحِجَارَةَ وَالْآلَةَ ، حَتَّى نُقِلَ مَا كَانَ فِي قَصْرِ بِلْقِيسَ مِمَّا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ رُخَامٍ أَوْ آلَةٍ لِلْبِنَاءِ ، وَجَدَّ فِي بِنَائِهِ ، وَإِنَّهُ كَانَ مُرَبَّعًا مُسْتَوِيَ التَّرْبِيعِ ، وَجَعَلَ طُولَهُ فِي السَّمَاءِ سِتِّينَ ذِرَاعًا ، وَكَبْسَهُ مِنْ دَاخِلِهِ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ فِي السَّمَاءِ ، وَكَانَ يُصْعَدُ عَلَيْهِ بِدَرَجِ الرُّخَامِ ، وَحَوْلَهُ سُورٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُلَّيْسِ مِائَتَا ذِرَاعٍ ، مُطِيفٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَجَعَلَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحِجَارَةٍ تُسَمِّيهَا أَهْلُ الْيَمَنِ الْجُرُوبَ مَنْقُوشَةٍ مُطَابَقَةٍ ، لَا يَدْخُلُ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا الْإِبْرَةُ ، مُطْبَقَةٍ بِهِ ، وَجَعَلَ طُولَ مَا بَنَى بِهِ مِنَ الْجُرُوبِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ فَصَلَ مَا بَيْنَ حِجَارَةِ الْجُرُوبِ بِحِجَارَةٍ مُثَلَّثَةٍ تُشْبِهُ الشُّرَفَ مُدَاخَلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَجَرًا أَخْضَرَ ، وَحَجَرًا أَحْمَرَ ، وَحَجَرًا أَبْيَضَ ، وَحَجَرًا أَصْفَرَ ، وَحَجَرًا أَسْوَدَ ، وَفِيمَا بَيْنَ كُلِّ سَافَيْنِ خَشَبُ سَاسَمٍ ، مُدَوَّرُ الرَّأْسِ ، غَلِيظُ الْخَشَبَةِ ، حِضْنُ الرِّجْلِ ، نَاتِئَةٌ عَلَى الْبِنَاءِ ، فَكَانَ مُفْصَلًا بِهَذَا الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الصُّفَّةِ ، ثُمَّ فُصِلَ بِإِفْرِيزٍ مِنْ رُخَامٍ مَنْقُوشٍ ، طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ذِرَاعَانِ ، وَكَانَ الرُّخَامُ نَاتِئًا عَلَى الْبِنَاءِ ذِرَاعًا ، ثُمَّ فُصِلَ فَوْقَ الرُّخَامِ بِحِجَارَةٍ سُودٍ لَهَا بَرِيقٌ مِنْ حِجَارَةِ نَقَمٍ جَبَلِ صَنْعَاءَ الْمُشْرِفِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ وُضِعَ فَوْقَهَا حِجَارَةٌ صُفْرٌ لَهَا بَرِيقٌ ، ثُمَّ وُضِعَ فَوْقَهَا حِجَارَةٌ بِيضٌ لَهَا بَرِيقٌ ، فَكَانَ هَذَا ظَاهِرَ حَائِطِ الْقُلَّيْسِ ، وَكَانَ عَرْضُ حَائِطِ الْقُلَّيْسِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَحْفَظُونَ ذَرْعَ طُولِ الْقُلَّيْسِ وَلَا عَرْضِهِ ، وَكَانَ لَهُ بَابٌ مِنْ نُحَاسٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ طُولًا ، فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ، وَكَانَ الْمَدْخَلُ مِنْهُ إِلَى بَيْتٍ فِي جَوْفِهِ طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا فِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا ، مُعَلَّقِ الْعَمَلِ بِالسَّاجِ الْمَنْقُوشِ ، وَمَسَامِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، ثُمَّ يُدْخَلُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى إِيوَانٍ طُولُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ، وَعُقُودُهُ مَضْرُوبَةٌ بِالْفُسَيْفِسَاءِ ، مُشَجَّرَةٌ بَيْنَ أَضْعَافِهَا كَوَاكِبُ الذَّهَبِ ظَاهِرَةٌ ، ثُمَّ يُدْخَلُ مِنَ الْإِيوَانِ إِلَى قُبَّةٍ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا ، جَدْرُهَا بِالْفُسَيْفِسَاءِ ، وَفِيهَا صُلُبٌ مَنْقُوشَةٌ بِالْفُسَيْفِسَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَفِيهَا رُخَامَةٌ مِمَّا يَلِي مَطْلِعَ الشَّمْسِ مِنَ الْبَلَقِ مُرَبَّعَةٌ ، عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشْرَةِ أَذْرُعٍ ، تَغْشَى عَيْنَ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بَطْنِ الْقُبَّةِ ، تُؤَدِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى دَاخِلِ الْقُبَّةِ ، وَكَانَ تَحْتَ الرُّخَامَةِ مِنْبَرٌ مِنْ خَشَبِ اللَّبَخِ ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ الْآبُنُوسُ ، مُفَصَّلٌ بِالْعَاجِ الْأَبْيَضِ ، وَدَرَجُ الْمِنْبَرِ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ ، مُلْبَسَةٌ ذَهَبًا وَفِضَّةً ، وَكَانَ فِي الْقُبَّةِ سَلَاسِلُ فِضَّةٍ ، وَكَانَ فِي الْقُبَّةِ أَوْ فِي الْبَيْتِ خَشَبَةُ سَاجٍ مَنْقُوشَةٌ ، طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا ، يُقَالُ لَهَا كُعَيْبٌ ، وَخَشَبَةٌ مِنْ سَاجٍ نَحْوُهَا فِي الطُّوَلِ ، يُقَالُ لَهَا امْرَأَةُ كُعَيْبٍ ، كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يُقَالُ لِكُعَيْبٍ الْأَحْوَزِيُّ ، وَالْأَحْوَزِيُّ بِلِسَانِهِمُ الْحُرُّ ، وَكَانَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ بِنَاءِ الْقُلَّيْسِ قَدْ أَخَذَ الْعُمَّالَ بِالْعَمَلِ أَخْذًا شَدِيدًا ، وَكَانَ آلَى أَنْ لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى عَامِلٍ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي عَمَلِهِ ، فَيُؤْتَى بِهِ إِلَّا قَطَعَ يَدَهُ . قَالَ : فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ ، فَذَهَبَ بِهَا مَعَهُ لِتَسْتَوْهِبَهُ مِنْ أَبْرَهَةَ ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ بَارِزٌ لِلنَّاسِ ، فَذَكَرَتْ لَهُ عِلَّةَ ابْنِهَا ، وَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : لَا أُكَذِّبُ نَفْسِي ، وَلَا أُفْسِدُ عَلَى عُمَّالِي . فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : اضْرِبْ بِمِعْوَلِكَ سَاعِيَ بُهْرٍ ، الْيَوْمُ لَكَ ، وَغَدًا لِغَيْرِكَ ، لَيْسَ كُلُّ الدَّهْرِ لَكَ . فَقَالَ : أَدْنُوهَا . فَقَالَ لَهَا : إِنَّ هَذَا الْمُلْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ قَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَبْنِيَ الْقُلَّيْسَ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَرَى مِنْهُ بَحْرَ عَدَنَ ، فَقَالَ : لَا أَبْنِي حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا . وَأَعْفَى النَّاسَ مِنَ الْعَمَلِ . وَتَفْسِيرُ قَوْلِهَا : سَاعِي بُهْرٍ ، تَقُولُ : اضْرِبْ بِمِعْوَلِكَ مَا كَانَ حَدِيدًا . فَانْتَشَرَ خَبَرُ بِنَاءِ أَبْرَهَةَ هَذَا الْبَيْتَ فِي الْعَرَبِ ، فَدَعَا رَجُلٌ مِنَ النَّسَاءَةِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، فَتَبَيَّنَ مِنْهُمْ ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ أَبْرَهَةُ بِصَنْعَاءَ ، فَيُحْدِثَا فِيهِ ، فَذَهَبَ بِهِمَا فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَدَخَلَ أَبْرَهَةُ الْبَيْتَ ، فَرَأَى أَثَرَهُمَا فِيهِ ، فَقَالَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ فَقِيلَ : رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ . فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَهْدِمَ بَيْتَهُمُ الَّذِي بِمَكَّةَ . قَالَ : فَسَاقَ الْفِيلَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِيَهْدِمَهُ ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ مَا كَانَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْقُلَّيْسُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، حَتَّى وَلَّى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسَ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ الْيَمَنَ ، فَذَكَرَ الْعَبَّاسُ مَا فِي الْقُلَّيْسِ مِنَ النَّقْضِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ تُصِيبُ فِيهِ مَالًا كَثِيرًا وَكَنْزًا . فَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَدْمِهِ وَأَخْذِ مَا فِيهِ ، فَبَعَثَ إِلَى ابْنٍ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، فَاسْتَشَارَهُ فِي هَدْمِهِ ، وَقَالَ : إِنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدْ أَشَارُوا عَلَيَّ أَنْ لَا أَهْدِمَهُ ، وَعَظَّمَ عَلَيَّ أَمْرَ كُعَيْبٍ ، وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَشْيَاءَ مِمَّا يُحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : كُلُّ مَا بَلَغَكَ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا كُعَيْبٌ صَنَمٌ مِنْ أَصْنَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فُتِنُوا بِهِ ، فَمُرْ بِالدَّهْلِ - وَهُوَ الطَّبْلُ - وَبِمِزْمَارٍ ، فَلْيَكُونَا قَرِيبًا ، ثُمَّ أَعْلِهِ الْهَدَّامِينَ ، ثُمَّ مُرْهُمْ بِالْهَدْمِ ، فَإِنَّ الدَّهْلَ وَالْمِزْمَارَ أَنْشَطُ لَهُمْ ، وَأَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَنْتَ مُصِيبٌ مِنْ نَقْضِهِ مَالًا عَظِيمًا ، مَعَ أَنَّكَ تُثَابُ مِنَ الْفَسَقَةِ الَّذِينَ حَرَقُوا غُمْدَانَ ، وَتَكُونُ قَدْ مَحَوْتَ عَنْ قَوْمِكَ اسْمَ بِنَاءِ الْحَبَشِ ، وَقَطَعْتَ ذِكْرَهُمْ . وَكَانَ بِصَنْعَاءَ يَهُودِيٌّ عَالِمٌ . قَالَ : فَجَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ مَلِكًا يَهْدِمُ الْقُلَّيْسَ يَلِي الْيَمَنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . قَالَ : فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُ قَوْلُ الْيَهُودِيِّ وَمَشُورَةُ ابْنِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، أَجْمَعَ عَلَى هَدْمِهِ "
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ مَشْيَخَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ بِصَنْعَاءَ أَنَّ يُوسُفَ ذَا نُوَاسٍ - وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ الَّذِي حَرَقَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِنَجْرَانَ - لَمَّا أَغْرَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَجَاءَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى أَرْضِ الْيَمَنِ ، فَعَبَرُوا مِنْ دَهْلَكٍ حَتَّى دَخَلُوا صَنْعَاءَ ، وَحَرَقُوا غُمْدَانَ ، وَكَانَ أَعْظَمَ قَصْرٍ يُعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ، وَغَلَبُوا عَلَى الْيَمَنِ ، وَبَنَى أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيُّ الْقُلَّيْسَ لِلنَّجَاشِيِّ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بِصَنْعَاءَ بَيْتًا لَمْ تَبْنِ الْعَرَبُ وَلَا الْعَجَمُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ أَنْتَهِيَ حَتَّى أَصْرِفَ حَاجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهِ ، وَيَتْرُكُوا الْحَجَّ إِلَى بَيْتِهِمْ . فَبَنَى الْقُلَّيْسَ بِحِجَارَةِ قَصْرِ بِلْقِيسَ الَّذِي بِمَأْرِبٍ ، وَبِلْقِيسُ صَاحِبَةُ الصَّرْحِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ حِينَ تَزَوَّجَهَا يَنْزِلُ عَلَيْهَا فِيهِ إِذَا جَاءَهَا ، فَوَضَعَ الرِّجَالُ نَسَقًا يُنَاوِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْحِجَارَةَ وَالْآلَةَ ، حَتَّى نُقِلَ مَا كَانَ فِي قَصْرِ بِلْقِيسَ مِمَّا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ رُخَامٍ أَوْ آلَةٍ لِلْبِنَاءِ ، وَجَدَّ فِي بِنَائِهِ ، وَإِنَّهُ كَانَ مُرَبَّعًا مُسْتَوِيَ التَّرْبِيعِ ، وَجَعَلَ طُولَهُ فِي السَّمَاءِ سِتِّينَ ذِرَاعًا ، وَكَبْسَهُ مِنْ دَاخِلِهِ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ فِي السَّمَاءِ ، وَكَانَ يُصْعَدُ عَلَيْهِ بِدَرَجِ الرُّخَامِ ، وَحَوْلَهُ سُورٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُلَّيْسِ مِائَتَا ذِرَاعٍ ، مُطِيفٌ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَجَعَلَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحِجَارَةٍ تُسَمِّيهَا أَهْلُ الْيَمَنِ الْجُرُوبَ مَنْقُوشَةٍ مُطَابَقَةٍ ، لَا يَدْخُلُ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا الْإِبْرَةُ ، مُطْبَقَةٍ بِهِ ، وَجَعَلَ طُولَ مَا بَنَى بِهِ مِنَ الْجُرُوبِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ فَصَلَ مَا بَيْنَ حِجَارَةِ الْجُرُوبِ بِحِجَارَةٍ مُثَلَّثَةٍ تُشْبِهُ الشُّرَفَ مُدَاخَلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَجَرًا أَخْضَرَ ، وَحَجَرًا أَحْمَرَ ، وَحَجَرًا أَبْيَضَ ، وَحَجَرًا أَصْفَرَ ، وَحَجَرًا أَسْوَدَ ، وَفِيمَا بَيْنَ كُلِّ سَافَيْنِ خَشَبُ سَاسَمٍ ، مُدَوَّرُ الرَّأْسِ ، غَلِيظُ الْخَشَبَةِ ، حِضْنُ الرِّجْلِ ، نَاتِئَةٌ عَلَى الْبِنَاءِ ، فَكَانَ مُفْصَلًا بِهَذَا الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الصُّفَّةِ ، ثُمَّ فُصِلَ بِإِفْرِيزٍ مِنْ رُخَامٍ مَنْقُوشٍ ، طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ذِرَاعَانِ ، وَكَانَ الرُّخَامُ نَاتِئًا عَلَى الْبِنَاءِ ذِرَاعًا ، ثُمَّ فُصِلَ فَوْقَ الرُّخَامِ بِحِجَارَةٍ سُودٍ لَهَا بَرِيقٌ مِنْ حِجَارَةِ نَقَمٍ جَبَلِ صَنْعَاءَ الْمُشْرِفِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ وُضِعَ فَوْقَهَا حِجَارَةٌ صُفْرٌ لَهَا بَرِيقٌ ، ثُمَّ وُضِعَ فَوْقَهَا حِجَارَةٌ بِيضٌ لَهَا بَرِيقٌ ، فَكَانَ هَذَا ظَاهِرَ حَائِطِ الْقُلَّيْسِ ، وَكَانَ عَرْضُ حَائِطِ الْقُلَّيْسِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَحْفَظُونَ ذَرْعَ طُولِ الْقُلَّيْسِ وَلَا عَرْضِهِ ، وَكَانَ لَهُ بَابٌ مِنْ نُحَاسٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ طُولًا ، فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ، وَكَانَ الْمَدْخَلُ مِنْهُ إِلَى بَيْتٍ فِي جَوْفِهِ طُولُهُ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا فِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا ، مُعَلَّقِ الْعَمَلِ بِالسَّاجِ الْمَنْقُوشِ ، وَمَسَامِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، ثُمَّ يُدْخَلُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى إِيوَانٍ طُولُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ، وَعُقُودُهُ مَضْرُوبَةٌ بِالْفُسَيْفِسَاءِ ، مُشَجَّرَةٌ بَيْنَ أَضْعَافِهَا كَوَاكِبُ الذَّهَبِ ظَاهِرَةٌ ، ثُمَّ يُدْخَلُ مِنَ الْإِيوَانِ إِلَى قُبَّةٍ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا ، جَدْرُهَا بِالْفُسَيْفِسَاءِ ، وَفِيهَا صُلُبٌ مَنْقُوشَةٌ بِالْفُسَيْفِسَاءِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَفِيهَا رُخَامَةٌ مِمَّا يَلِي مَطْلِعَ الشَّمْسِ مِنَ الْبَلَقِ مُرَبَّعَةٌ ، عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشْرَةِ أَذْرُعٍ ، تَغْشَى عَيْنَ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بَطْنِ الْقُبَّةِ ، تُؤَدِّي ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِلَى دَاخِلِ الْقُبَّةِ ، وَكَانَ تَحْتَ الرُّخَامَةِ مِنْبَرٌ مِنْ خَشَبِ اللَّبَخِ ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ الْآبُنُوسُ ، مُفَصَّلٌ بِالْعَاجِ الْأَبْيَضِ ، وَدَرَجُ الْمِنْبَرِ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ ، مُلْبَسَةٌ ذَهَبًا وَفِضَّةً ، وَكَانَ فِي الْقُبَّةِ سَلَاسِلُ فِضَّةٍ ، وَكَانَ فِي الْقُبَّةِ أَوْ فِي الْبَيْتِ خَشَبَةُ سَاجٍ مَنْقُوشَةٌ ، طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا ، يُقَالُ لَهَا كُعَيْبٌ ، وَخَشَبَةٌ مِنْ سَاجٍ نَحْوُهَا فِي الطُّوَلِ ، يُقَالُ لَهَا امْرَأَةُ كُعَيْبٍ ، كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يُقَالُ لِكُعَيْبٍ الْأَحْوَزِيُّ ، وَالْأَحْوَزِيُّ بِلِسَانِهِمُ الْحُرُّ ، وَكَانَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ بِنَاءِ الْقُلَّيْسِ قَدْ أَخَذَ الْعُمَّالَ بِالْعَمَلِ أَخْذًا شَدِيدًا ، وَكَانَ آلَى أَنْ لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى عَامِلٍ لَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي عَمَلِهِ ، فَيُؤْتَى بِهِ إِلَّا قَطَعَ يَدَهُ . قَالَ : فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ، وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ عَجُوزٌ ، فَذَهَبَ بِهَا مَعَهُ لِتَسْتَوْهِبَهُ مِنْ أَبْرَهَةَ ، فَأَتَتْهُ وَهُوَ بَارِزٌ لِلنَّاسِ ، فَذَكَرَتْ لَهُ عِلَّةَ ابْنِهَا ، وَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : لَا أُكَذِّبُ نَفْسِي ، وَلَا أُفْسِدُ عَلَى عُمَّالِي . فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : اضْرِبْ بِمِعْوَلِكَ سَاعِيَ بُهْرٍ ، الْيَوْمُ لَكَ ، وَغَدًا لِغَيْرِكَ ، لَيْسَ كُلُّ الدَّهْرِ لَكَ . فَقَالَ : أَدْنُوهَا . فَقَالَ لَهَا : إِنَّ هَذَا الْمُلْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ قَدْ أَجْمَعَ أَنْ يَبْنِيَ الْقُلَّيْسَ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَرَى مِنْهُ بَحْرَ عَدَنَ ، فَقَالَ : لَا أَبْنِي حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا . وَأَعْفَى النَّاسَ مِنَ الْعَمَلِ . وَتَفْسِيرُ قَوْلِهَا : سَاعِي بُهْرٍ ، تَقُولُ : اضْرِبْ بِمِعْوَلِكَ مَا كَانَ حَدِيدًا . فَانْتَشَرَ خَبَرُ بِنَاءِ أَبْرَهَةَ هَذَا الْبَيْتَ فِي الْعَرَبِ ، فَدَعَا رَجُلٌ مِنَ النَّسَاءَةِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، فَتَبَيَّنَ مِنْهُمْ ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ أَبْرَهَةُ بِصَنْعَاءَ ، فَيُحْدِثَا فِيهِ ، فَذَهَبَ بِهِمَا فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَدَخَلَ أَبْرَهَةُ الْبَيْتَ ، فَرَأَى أَثَرَهُمَا فِيهِ ، فَقَالَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ فَقِيلَ : رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ . فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَهْدِمَ بَيْتَهُمُ الَّذِي بِمَكَّةَ . قَالَ : فَسَاقَ الْفِيلَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِيَهْدِمَهُ ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ مَا كَانَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْقُلَّيْسُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، حَتَّى وَلَّى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسَ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ الْيَمَنَ ، فَذَكَرَ الْعَبَّاسُ مَا فِي الْقُلَّيْسِ مِنَ النَّقْضِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ تُصِيبُ فِيهِ مَالًا كَثِيرًا وَكَنْزًا . فَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَدْمِهِ وَأَخْذِ مَا فِيهِ ، فَبَعَثَ إِلَى ابْنٍ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، فَاسْتَشَارَهُ فِي هَدْمِهِ ، وَقَالَ : إِنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدْ أَشَارُوا عَلَيَّ أَنْ لَا أَهْدِمَهُ ، وَعَظَّمَ عَلَيَّ أَمْرَ كُعَيْبٍ ، وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَشْيَاءَ مِمَّا يُحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : كُلُّ مَا بَلَغَكَ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا كُعَيْبٌ صَنَمٌ مِنْ أَصْنَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فُتِنُوا بِهِ ، فَمُرْ بِالدَّهْلِ - وَهُوَ الطَّبْلُ - وَبِمِزْمَارٍ ، فَلْيَكُونَا قَرِيبًا ، ثُمَّ أَعْلِهِ الْهَدَّامِينَ ، ثُمَّ مُرْهُمْ بِالْهَدْمِ ، فَإِنَّ الدَّهْلَ وَالْمِزْمَارَ أَنْشَطُ لَهُمْ ، وَأَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَنْتَ مُصِيبٌ مِنْ نَقْضِهِ مَالًا عَظِيمًا ، مَعَ أَنَّكَ تُثَابُ مِنَ الْفَسَقَةِ الَّذِينَ حَرَقُوا غُمْدَانَ ، وَتَكُونُ قَدْ مَحَوْتَ عَنْ قَوْمِكَ اسْمَ بِنَاءِ الْحَبَشِ ، وَقَطَعْتَ ذِكْرَهُمْ . وَكَانَ بِصَنْعَاءَ يَهُودِيٌّ عَالِمٌ . قَالَ : فَجَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ مَلِكًا يَهْدِمُ الْقُلَّيْسَ يَلِي الْيَمَنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً . قَالَ : فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَهُ قَوْلُ الْيَهُودِيِّ وَمَشُورَةُ ابْنِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، أَجْمَعَ عَلَى هَدْمِهِ