" كَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَرَى التَّقْصِيرَ إِلَّا لِحَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ أَوْ مُجَاهِدٍ "
فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرَةَ , قَالَ : ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ , قَالَ : ثنا شُعْبَةُ , قَالَ : ثنا سُلَيْمَانُ , عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ , عَنِ الْأَسْوَدِ , قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَرَى التَّقْصِيرَ إِلَّا لِحَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ أَوْ مُجَاهِدٍ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ حُذَيْفَةَ , كَانَ كَذَلِكَ فَأَمَرَ التَّيْمِيَّ إِذْ كَانَ يُرِيدُ سَفَرًا لَا لِحَجٍّ , وَلَا لِجِهَادٍ , أَنْ لَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ , فَانْتَهَى أَنْ يَكُونَ فِي حَدِيثِهِ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَرَى لِلْمُسَافِرِ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ . وَأَمَّا مَا رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ حَدِيثَ حَيَّانَ هُوَ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ وَهُوَ فِي مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ , فَقَالَ لَهُ : إِنِّي مِنْ بَعْثِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَكَيْفَ أُصَلِّي ؟ فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , فَقَالَ : إِنْ صَلَّيْتَ أَرْبَعًا فَأَنْتَ فِي مِصْرٍ , وَإِنْ صَلَّيْتَ اثْنَتَيْنِ فَأَنْتَ مُسَافِرٌ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُ كَانَ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ فِي الْأَمْصَارِ هَكَذَا . وَقَدْ رَوَى عَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ , حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَكَانَ جَوَابُهُ لَهُ أَنْ قَالَ : هِيَ رَكْعَتَانِ , مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ . فَذَلِكَ , عَلَى الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ , حَتَّى لَا يَتَضَادَّ ذَلِكَ , وَمَا رَوَى حَيَّانُ . فَيَكُونُ حَدِيثُ حَيَّانَ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَافِرِ فِي الْأَمْصَارِ , وَحَدِيثُ صَفْوَانَ عَلَى صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ , وَسَنُبَيِّنُ الْحُجَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي آخِرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ حَدَّثَنَا , قَالَ : ثنا رَوْحٌ , قَالَ : ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ , قَالَ : أَنَا ابْنُ شِهَابٍ , قَالَ : قُلْتُ لِعُرْوَةِ : مَا كَانَ يَحْمِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ تُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا ؟ فَقَالَ : تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ بِمِنًى . وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَأَوَّلَ فِي إِتْمَامِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَكَانَ مَا صَحَّ مِنْ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْلِ نِيَّتِهِ لِلْإِقَامَةِ . فَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ , كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُتِمُّ الصَّلَاةَ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَانَتْ لَا يَحْضُرُهَا صَلَاةٌ إِلَّا نَوَتْ إِقَامَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ , يَجِبُ عَلَيْهَا بِهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ , فَتُتِمُّ الصَّلَاةَ لِذَلِكَ . فَيَكُونُ إِتْمَامُهَا وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ , لَا فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِينَ . وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا , لِمَعْنًى غَيْرِ هَذَا , وَهُوَ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ : قَالَ أَبُو عُمَرَ : كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَتْ تَقُولُ : كُلُّ مَوْضِعٍ أَنْزِلُهُ , فَهُوَ مَنْزِلُ بَعْضِ بَنِيَّ , فَتَعُدُّ ذَلِكَ مَنْزِلًا لَهَا , وَتُتِمُّ الصَّلَاةَ مِنْ أَجْلِهِ . وَهَذَا عِنْدِي فَاسِدٌ , لِأَنَّ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ عَائِشَةَ . فَقَدْ كَانَ يَنْزِلُ فِي مَنَازِلِهِمْ , فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ الَّذِي يُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِلَى حُكْمِ الْإِقَامَةِ الَّتِي تُكْمَلُ فِيهَا الصَّلَاةُ . وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : كَانَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَكُونُ لِمَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ , عَلَى مَا رَوَيْنَا , عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَكَانَتْ تُسَافِرُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي كِفَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ , فَتَرَكَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى قَصْرَ الصَّلَاةِ . فَلَمَّا تَكَافَأَتْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ فِي فِعْلِ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , لَزِمَنَا أَنْ نَنْظُرَ حُكْمَ قَصْرِ الصَّلَاةِ , مَا يُوجِبُهُ . فَكَانَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّا رَأَيْنَا الرَّجُلَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَهْلِهِ , فَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ , وَسَوَاءٌ كَانَ فِي إِقَامَتِهِ طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ , لَا يَتَغَيَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ , فَكَانَ حُكْمُهُ تَمَامَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْإِقَامَةِ خَاصَّةً , لَا بِطَاعَةٍ , وَلَا بِمَعْصِيَةٍ ثُمَّ إِذَا سَافَرَ , خَرَجَ بِذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْإِقَامَةِ . فَقَدْ جَرَى فِي هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ , مَا قَدْ ذَكَرْنَا . فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجِبُ لَهُ حُكْمُ التَّقْصِيرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ . وَقَالَ آخَرُونَ : يَجِبُ لَهُ حُكْمُ التَّقْصِيرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا . فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ الْإِتْمَامِ يَجِبُ لَهُ فِي الْإِقَامَةِ بِالْإِقَامَةِ خَاصَّةً , لَا بِطَاعَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا , كَانَ كَذَلِكَ يَجِيءُ فِي النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّقْصِيرِ يَجِبُ لَهُ فِي السَّفَرِ بِالسَّفَرِ خَاصَّةً , لَا بِطَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا , قِيَاسًا وَنَظَرًا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَشَرَحْنَا . وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ التَّقْصِيرَ إِنَّمَا يَجِبُ لَهُ بِحُكْمِ السَّفَرِ خَاصَّةً لَا بِغَيْرِهِ , ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْصُرُ مَا كَانَ مُسَافِرًا فِي الْأَمْصَارِ وَفِي غَيْرِهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لَهَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِدُخُولِهِ الْأَمْصَارَ . وَجَمِيعُ مَا بَيَّنَّا فِي هَذَا الْبَابِ وَصَحَّحْنَا , هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ , رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى