عنوان الفتوى : متزوجة من آخر وترغب بالاستقرار في بلاد الكفر فهل لها حق حضانة ابنتها ؟
لدي طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات ، وأنا ووالدها منفصلان ، لقد قمت بتنشأتها منذ ولادتها ؛ لأن والدها لم يكن موجوداً معنا كثيراً ، أنا الآن متزوجة من أمريكى ، وأعيش بكندا ، وأرغب في الذهاب لأمريكا مصطحبة معي طفلتي ، لكن زوجي السابق يريد أن يأخذها مني ، وللأسف فقد أحيل الأمر الآن للقضاء ؛ لأنه كان يعاقبني دائما عندما أرغب فى السفر مع ابنتى ، ولابد أن أقوم دائما بالحصول على إذن من القاضي ، يساورني قلق شديد حيال ما إذا كنت أقوم بالأمر السديد ، لأنني لا أرغب في أن أفرِّق بين ابنتي ووالدها ، ولكني أعتقد أيضا أن ابنتي في حاجة أكبر إلى وجودها معي ؛ لأنه لم يكن دائم الوجود معها ، هو يقول الآن إنه لا يريد أن يقوم غرباء بتنشئة ابنته ، زوجي لديه ابن عم يبلغ من العمر 12 عاماً ، ويقوم بتربيته نظراً لوفاة والديه ، أشعر بحيرة شديدة ، ولا أعرف ماذا أفعل ، ربما يكون عليَّ الاختيار بين ابنتي وزوجي لأنه لا يريد أن ينتقل إلى هنا . أرجو الرد في أسرع وقت ممكن ، وجزاك الله خيراً .
الحمد لله
أولاً :
الإقامة في بلاد الكفر لمن كان له بلد مسلم يستطيع الإقامة فيها : لا تجوز ؛ لما
نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإقامة بين أظهر المشركين ؛ ولما فيه من
مفاسد لا تُحصى على الدين والنفس والأهل والأولاد ، ومن يعش من المسلمين هناك فلا
بدَّ أن يتأثر سلباً بتلك الديار إذا خالط أولئك الكفار في سكناهم وأعمالهم .
لذا فإنه يجب عليكِ السعي إلى ترك تلك الديار ، والهجرة إلى ديار الإسلام – على ما
فيها من نقص – وقد ندم كثيرٌ من المسلمين على تفريطهم في هذا الأمر ، وطال عليهم
الأمد فقست قلوبهم ، وكبر أولادهم فلم يفلحوا في تربيتهم ، ولا في إرجاعهم لبلاد
المسلمين .
ثانياً :
أما بخصوص ابنتكِ : فاعلمي أن الشرع قد أعطى حضانة الأولاد بعد انفصال والديهم
لأحسنهم ديناً وخُلقاً وقدرة على تربيتهم التربية الإسلامية الحسنة ، وهذا هو
الراجح من أقوال أهل العلم ، ولا يُبحث عن الحنان والعاطفة دون غيرهما ، ولا على
رجاحة العقل والحزم دون غيرهما ، بل لا بدَّ لمن يقوم بالحضانة أن يجمع مع هذا كله
القدرة على تربية أولاده تربية إسلامية ، ومن كان عطوفاً على أولاده ، وتحمله رأفته
بهم على أن يمنعهم من الصلاة أو الصيام ـ مثلا ـ فإنه لا يستحق أن يكون حاضناً ،
ومن يربيهم في بيئة مختلطة ، ويمكِّنهم من مشاهدة وسماع المحرَّمات فلا يستحق
الحضانة ، ما دام قادرا على أن يجنبهم ذلك ، وينقلهم إلى بيئة أخرى يأمنون فيها على
أديانهم .
قال ابن القيم رحمه الله :
وسمعت شيخنا رحمه الله - أي : ابن تيمية - يقول :
تنازع أبوان صبيّاً عند بعض الحكام ، فخيَّره بينهما فاختار أباه ، فقالت له أمه :
سله لأي شيء يختار أباه فسأله ، فقال : أمي تبعثني كل يوم للكتَّاب والفقيه يضربني
، وأبي يتركني للعب مع الصبيان ، فقضى به للأم قال : أنت أحق به .
قال شيخنا : وإذا ترك أحدُ الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه : فهو
عاص ، فلا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته : فلا ولاية له عليه ،
بل إما أن تُرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب ، وإما أن يُضم إليه من يقوم
معه بالواجب ، إذ المقصود : طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان .
قال شيخنا : وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء ، سواء
كان الوارث فاسقاً أو صالحاً ؛ بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة
على الواجب ، والعلم به ، وفعله بحسب الإمكان .
قال : فلو قُدِّر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ، ولا تقوم بها ، وأمها
أقوم بمصلحتها من تلك الضرَّة : فالحضانة هنا للأم قطعاً .
قال : ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً ،
ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقاً ، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما
مطلقاً بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البَرِّ العادل المحسن ، والله أعلم .
" زاد المعاد " ( 5 / 475 ، 476 ) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم :
البنت الصغرى حضانتها لأمها ما لم تتزوج ، أو يكمل لها سبع سنين ؛ فتكون حضانتها
لأبيها بشرط أن لا يلحقها ضرر ببقائها عند أبيها .
وأما الكبرى فحضانتها لأبيها ، ما لم يلحقها ضرر من بقائها عند ضرَّة أمها .
" فتاوى المرأة المسلمة " ( 2 / 874 ) .
وبما أننا لا نعلم شيئاً عن حال زوجك : فإننا نُعلمك بالصواب من الأمر لتعلمي
المستحق لحضانة ابنتك ، وظروفك التي ذكرتيها لا نراها تؤهلك لحضانة ابنتك ؛ فإن
كانت ظروف والدها خيراً من ظروفك فهو أولى بالحضانة منك ، ويجب أن يكون الحكَم
بينكما في ذلك على علم واطلاع على أحوال معيشتكما ، وطريقة تربيته لابنته .
على أنه ينبغي ـ أيضا ـ أن يكون للولد الذي ذكرت في السؤال أن زوجك يربيه اعتبار في
شأن ابنتك ؛ فإن كنت تقصدين أن زوجك الأول ـ والد البنت ـ هو الذي يربيه ؛ فينبغي
أن يكون في الاعتبار اختلاط ابنتك به ، فهو أجنبي عنها ، وإن كنت تقصدين أنه زوجك
الحالي هو الذي يربي هذا الفتى ( ابن العم ) فهو مرجح آخر لأن تكون حضانة ابنتك
لوالدها ؛ لأن اختلاطها بهذا الفتى الأجنبي عنها ـ وعنك أنت أيضا ـ فيه خطورة عليها
وعلى تربيتها .
وهذا الذي ذكرناه وفصَّلناه هنا هو باعتبار خلو حالتك من موانع أخرى تمنعك من حضانة ابنتك ، والذي يظهر من حالتك هو وجود بعض تلك الموانع .
ثالثاً :
لو قيل بأنكِ الأولى من زوجك : فإن ذلك يقيَّد بكونكِ لم تتزوجي ؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لتلك المرأة التي طلبت حضانة ولدها من زوجها - بعد أن طلقها - :
( أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي ) رواه أبو داود ( 2276 ) من حديث عبد
الله بن عمرو رضي الله عنه ، وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود " .
وأمرٌ آخر يمنعكِ من الحضانة : وهو سفرك وانتقالك عن مكان سكنى زوجك السابق ، وهو
والد ابنتك ، وعلى هذا اتفقت المذاهب .
ففي " الموسوعة الفقهية " ( 17 / 308 ، 309 ) :
مكان الحضانة هو المسكن الّذي يقيم فيه والد المحضون إذا كانت الحاضنة أمّه ، وهي
في زوجيّة أبيه ، أو في عدّته من طلاق رجعيّ أو بائن ؛ ذلك أنّ الزّوجة ملزمة
بمتابعة زوجها والإقامة معه حيث يقيم ، والمعتدّة يلزمها البقاء في مسكن الزّوجيّة
حتّى تنقضي العدّة سواء مع الولد أو بدونه ؛ لقوله تعالى : ( لا تخرجوهنّ من
بيوتهنّ ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة ) .
وإذا انقضت عدّة الأمّ : فمكان الحضانة هو البلد الّذي يقيم فيه والد المحضون أو
وليّه ، وكذلك إذا كانت الحاضنة غير الأمّ ؛ لأنّ للأب حقّ رؤية المحضون ، والإشراف
على تربيته ، وذلك لا يتأتّى إلاّ إذا كان الحاضن يقيم في بلد الأب أو الوليّ .
هذا قدر مشترك بين المذاهب ، وهو ما صرّح به الحنفيّة وتدلّ عليه عبارات المذاهب
الأخرى .
أمّا مسألة انتقال الحاضن ، أو الوليّ إلى مكان آخر : ففيه اختلاف المذاهب ، وبيان
ذلك كما يلي :
يفرّق جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - بين سفر الحاضنة ، أو
الوليّ للنّقلة والانقطاع والسّكنى في مكان آخر ، وبين السّفر لحاجة كالتّجارة
والزّيارة ، فإن كان سفر أحدهما ( الحاضنة أو الوليّ ) للنّقلة والانقطاع : سقطت
حضانة الأمّ ، وتنتقل لمن هو أولى بالحضانة بعدها ، بشرط أن يكون الطّريق آمناً ،
والمكان المنتقل إليه مأموناً بالنّسبة للصّغير ، والأب هو الأولى بالمحضون سواء
أكان هو المقيم أم المنتقل ؛ لأنّ الأب في العادة هو الّذي يقوم بتأديب الصّغير ،
وحفظ نسبه ، فإذا لم يكن الولد في بلد الأب ضاع ، لكن قيّد الحنابلة أولويّة الأب
بما إذا لم يرد مضارّة الأمّ وانتزاع الولد منها ، فإذا أراد ذلك لم يجب إليه ، بل
يعمل ما فيه مصلحة الولد .
انتهى
وعليه :
فإن سقوط حضانتك لابنتك له أسباب متعددة :
أولها : زواجكِ ، وقد سبق دليل ذلك .
وثانيها : سفرك سفر نقلة بعيداً عن والدها ، وقد سبق كلام الفقهاء في ذلك .
وثالثها : البيئة التي ستنتقلين إليها ، والتي لا يؤمن فيها تربية ابنتك تربية
إسلامية صحيحة .
وانظري – لمزيدٍ من الفائدة - :
جواب السؤال رقم ( 20705 ) وفيه
بيان : أنه إذا تزوجت المطلقة فليس لها حقٌ في الحضانة ، وفيه ترجيح قول شيخ
الإسلام ابن تيمية أن الأب أولى بالحضانة بعد الأم .
وجواب السؤال رقم ( 5234 ) وفيه بيان
: أن الأم أحق به من الأب ، ما لم يقم بالأم مانع من تقديمها .
وجواب السؤال رقم ( 9463 ) وفيه :
" وإن حصلت الفرقة فعلى المرأة أن تختار بين أولادها أو زوج آخر ، وتستخير الله في
ذلك ، وتستعين به وتلجأ إليه بالدعاء والتضرع أن يهديها الصواب في ذلك ، وهذا هو
حكم الإسلام في هذه المسألة .
وأما إن كان القانون في بلادكم يحكم بحضانة الأولاد للأم حتى لو تزوجت فهذا مخالف
لحكم الشرع ولا يجوز ذلك ... " .
والفائدة الأخيرة هي ما كنا نود قوله لك ، وهو أنه لا يمكنك الجمع بين زوجٍ آخر ، وبتلك الظروف – السفر والبيئة – وبين ابنتك ، فاستخيري الله تعالى ، فإما أن تُبقي على زواجك الجديد ، وتتركي ابنتك عند والدها إن كان مأموناً موثوقاً ، أو تختاري ابنتك ويحصل طلاق من الثاني ، وقيام على تربية ابنتك التربية السليمة ، مع تمكين والدها من رؤيتها .
والله أعلم