عنوان الفتوى : حكم منكر نزول عيسى ابن مريم
يقول بعض العلماء: أحاديث نزول عيسى صحيحة، وبلغت حد الشهرة والاستفاضة فيما بعد القرون الثلاثة الأولى، ولذلك فهي توجب العمل ولا توجب العلم، أي الاعتقاد، ومن احتاط لدينه فاعتقد بصحة هذه الأحاديث فله الاحتياط من غير أن يكفِّر أحداً، فما مدى صحة هذا القول؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان حق لا ريب فيه، وقد دل عليه الكتاب والسنة المتواترة، دليل الكتاب قوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا {النساء:159}، قال ابن كثير في تفسيره: قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موته، أي قبل موت عيسى عليه السلام، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة -التي سنوردها إن شاء الله قريباً- فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية -يعني: لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف- فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. أي: قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب. ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له.
الدليل الثاني من الكتاب قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا {الزخرف:61}، أي نزول عيسى عليه السلام، قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان: التحقيق أن الضمير في قوله: وإنه راجع إلى عيسى لا إلى القرآن، ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله (لعلم للساعة) على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم، والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة أي علامة لقرب مجيئها لأنه من أشراطها الدالة على قربها.
دليل السنة ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية... وفي الصحيحين مرفوعاً: كيف بكم إذا نزل ابن مريم وقائدكم منكم. وفي صحيح مسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة... قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة لهذه الأمة.
فكل هذه الأحاديث دالة على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وهي تورث اليقين للواقف عليها، ولكن من تأولها وأنكرها فلا يحكم بكفره إلا إذا أقيمت عليه الحجة وأصر وعاند، وأما حديث: من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أنكر نزول عيسى ابن مريم فقد كفر، ومن أنكر خروج الدجال فقد كفر، ومن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، فإن جبريل عليه السلام أخبرني بأن الله تعالى يقول: من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فليتخذ ربا غيري. فقد قال الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة (3/201): باطل، رواه أبو بكر الكلاباذي في مفتاح معاني الآثار.
وقال أيضاً: اعلم أن الإيمان بكل ما ذكر في هذا الحديث من خروج المهدي، ونزول عيسى... كل ذلك واجب الإيمان به، لثبوته في الكتاب والسنة، ولكن ليس هناك نص في أن (من أنكر ذلك فقد كفر)، ومن أجل هذا أوردت الحديث وبينت وضعه، وهو ظاهر الوضع، وكأنه من وضع بعض المحدثين أو غيره من الجهلة، وضعه ليقيم به الحجة على منكري ذلك من ذوي الأهواء والمعتزلة، ولن تقوم الحجة على أحد بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والافتراء على الله تعالى، فقاتل الله الوضاعين ما أجرأهم على الله عز وجل.
والتكفير ليس بالأمر السهل، نعم من أنكر ما ثبت من الدين بالضرورة بعدما قامت الحجة عليه، فهو الكافر الذي يتحقق فيه حقيقة معنى كفر، وأما من أنكر شيئاً لعدم ثبوته عنده، أو لشبهة من حيث المعنى، فهو ضال، وليس بكافر مرتد عن الدين شأنه في ذلك شأن من ينكر أي حديث صحيح عند أهل العلم. والله أعلم. انتهى.
والله أعلم.