عنوان الفتوى : البراهين على براءة يوسف عليه السلام
هل كان سيدنا يوسف عليه السلام يحب امرأة العزيز؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد أطنب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تحقيق المقال في شأن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فذكر في تفسير قوله تعالى: (وهم بها)، وجهين:
الأول: أن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه، لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك. يعني: ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا: ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة. لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، وامتثالاً لأمره، كما قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد، كهم يوسف هذا، بدليل قوله: إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا، لأن قوله: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا يدل على أن ذلك الهم ليس معصية، لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه (هذا ما يهمني)، ويقول فيما يحبه ويشتهيه (هذا أهم الأشياء إلي)، بخلاف هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه، ومثل هذا التصميم على المعصية، معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه. فصرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار...
والثاني: وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان، قال مقيده عفا الله عنه: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب، أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب (لولا) لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية المذكورة، وكقوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم، وعلى هذا القول: فمعنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها. فما قبل (لولا) هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.
ونظير ذلك قوله تعالى: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ، فما قبل (لولا) دليل الجواب، أي لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب (لولا) وتقديم الجواب في سائر الشروط، وعلى هذا القول يكون جواب (لولا) في قوله: لولا أن رأى برهان ربه، هو ما قبله من قوله (وهم بها) وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.
ثم نقل رحمه الله شيئاً من كلام أبي حيان ثم خلص إلى أنه يعلم بهذا: أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلاً بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي (لولا) على انتفاء رؤية البرهان، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه، وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان. وإما أن يكون همه خاطراً قلبياً صرف عنه وازع التقوى، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى.
وذكر رحمه الله في كلام قبل هذا تأكيد براءة يوسف عليه السلام من الاتهام بالوقوع في السوء، فذكر أن: القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك، واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود. أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي. وقوله: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ. وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ. وقولها: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
وأما اعتراف زوج المرأة، ففي قوله: قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وأما اعتراف الشهود بذلك، ففي قوله: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ. وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته، ففي قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
قال الفخر الرازي في تفسيره: قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات: أولها: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ. والثاني قوله: وَالْفَحْشَاء. أي وكذلك لنصرف عنه الفحشاء. والثالث قوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. مع أنه تعالى قال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. والرابع قوله: الْمُخْلَصِينَ. وفيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل، وأخرى باسم المفعول. فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته. وعلى كلا الوجهين: فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه. انتهى من تفسير الرازي.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته، ففي قوله تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح الله بهذا في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
والله أعلم.