عنوان الفتوى : عقيدة السلف الصالح في المعية والعلو
معلوم أن أهل السنة لا يؤلون الصفات فلماذا أولوا المعية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن أهل السنة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل. ومن هذه الصفات صفة المعية؛ كما يثبتون له عز وجل صفة العلو. فهم يثبتون له جل وعلا هاتين الصفتين على ما يليق به سبحانه من غير أن تشبه معية المخلوقين ولا علوهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه.
وقد بين رحمه الله في مجموع الفتاوى عقيدة السلف الصالح في المعية والعلو بيانًا شافيًا فقال: والمقصود أنه تعالى وصف نفسه بالمعية وبالقرب، والمعية معيتان عامة وخاصة، فالأولى قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ. والثانية قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ...إلى غير ذلك من الآيات. وأما القرب فهو كقوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ. وقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ. وافترق الناس في هذا المقام أربع فرق.
ثم حكى مذاهب الفرق التي خالفت السلف في معنى المعية في أكثر من أربع صفحات. ثم قال:
الرابع: هم سلف الأمة وأئمتها أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف للكلم عن مواضعه. أثبتوا أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وهم بائنون منه، وهو أيضًا مع العباد عمومًا بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضًا قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. فهو مع المسافر في سفره مع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم؛ كما قال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ... أي على الإيمان؛ لا أن ذاته في ذاتهم، بل هم مصاحبون له. وقوله: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.. يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم. فالله تعالى عالم بعباده وهو معهم أينما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية؛ كما قالت المرأة: زوجي طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد. فهذا كله حقيقة ومقصودها أن تعرف لوازم ذلك وهو طول القامة والكرم بكثرة الطعام وقرب البيت من موضع الأضياف. وفي القرآن: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ. فإنه يراد برؤيته وسمعه إثبات علمه بذلك، وأنه يعلم هل ذلك خير أو شر؟ فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات، وكذلك إثبات القدرة على الخلق كقوله: وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء. وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ. والمراد التخويف بتوابع السيئات ولوازمها في العقوبة والانتقام.
وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرًا وتخويفًا ورغبة للنفوس في الخير ويصف نفسه بالقدرة والسمع والرؤية والكتاب. فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد ايضًا لازم ذلك المعنى؛ فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة والالتزام، فليس اللفظ مستعملاً في اللازم فقط، بل أريد به مدلوله الملزوم وذلك حقيقة.
وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين في شرح لمعة الاعتقاد على دعوى أن أهل السنة أوَّلوا صفة المعية فقال:
قال أهل التأويل: أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ. فقلتم: وهو معكم بعلمه. وهذا تأويل؛ فإن الله تعالى يقول: وَهُوَ مَعَكُمْ، والضمير في قوله وَهُوَ مَعَكُمْ يعود إلى الله. فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص وقلتم: إنه معكم بالعلم. فإذن كيف تنكرون علينا التأويل؟
قلنا: نحن لم نؤول الآية، بل إنما فسرناها بلازمها وهو العلم؛ وذلك لأن قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل ويعرف عظمته، أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم، فإن هذا أمر مستحيل، كيف يكون الله معك في البيت، ومع الآخر في المسجد، ومع الثالث في الطريق، ومع الرابع في البر، ومع الخامس في الجو، ومع السادس في البحر...إلخ. لو قلنا بهذا فكم إلهًا يكون؟ لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعددًا أو متجزئًا – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا – وهذا أمر لا يمكن، ولهذا نقول: من فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه، ومن اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك، وكافر إذا بلغه العلم وأصر على قوله، ومن نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم فإنه بلا شك كاذب عليهم. إذن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وأنه مع خلقه كما قال في كتابه، ولكن مع إيماننا بعلوه. ولا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علمًا، وقدرة، وسلطانًا، وسمعًا، وبصرًا، وتدبيرًا، وغير ذلك من معاني الربوبية.
أما أن يكون حالاً في أمكنتهم، أو مختلطًا بهم كما يقول أهل الحلول والاتحاد؛ فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب والسنة، وعلى هذا فنحن لم نؤول الآية ولم نصرفها عن ظاهرها؛ لأن الذي قال عن نفسه: وَهُوَ مَعَكُمْ، هو الذي قال عن نفسه: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وهو الذي قال عن نفسه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. إذن فهو فوق عباده، ولا يمكن أن يكون في أمكنتهم. ومع ذلك فهو معهم محيط بهم علمًا، وقدرة، وسلطانًا، وتدبيرًا وغير ذلك.
وإذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل وأتباعهم اقتضت مع الإحاطة علمًا وقدرة، اقتضت نصرًا وتأييدًا؛ فنحن – ولله الحمد – ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه المختصرة والمطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة وبين علو الله سبحانه وتعالى. قال:
لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء في جميع صفاته؛ فهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه. وقال: إن الناس يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر في السماء وهم يقولون: معنا، فإذا كان هذا ممكنًا في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى.
والمهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبدًا ولا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه، وأننا صرفناها عن ظاهرها، بل نقول: إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة، معية تليق به، محيط بهم علمًا، وقدرة، وسلطانًا، وتدبيرًا، وغير ذلك؛ لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية وبين نصوص العلو إلا على هذا الوجه الذي قلناه، والله سبحانه وتعالى يفسر كلامه بعضه بعضًا.
وقال في شرح العقيدة الواسطية ردًّا على من استدل بآيات المعية على أن الله تعالى في كل مكان، تعالى الله عمَّا يقولون:
فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل:
أما السمع: فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي، والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك؛ لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان. ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبدًا. والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحيانًا: هذا لبن معه ماء، وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل: متاعي معي، وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقه تليق بجلاله سبحانه وتعالى كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية؛ لكن هو في السماء.
وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم؛ فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان فهذا يلزم عليه لوازم باطلة فيلزم عليه:
أولاً: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
ثانيًا: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنة؛ لزم أن يزداد بزيادة الناس وينقص بنقص الناس.
ثالثًا: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل.
فتبين بهذا أن قولهم مناف للسمع ومناف للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبدًا. انتهى.
والله أعلم.