عنوان الفتوى : تفسير (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس..)
يقول الله تعالى في سورة الحج:ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس...ما معنى هذه الآية الكريمة علما أننا نحن معشر البشر لا نرى تسبيح الشمس والقمر والنجوم.....؟؟؟؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن السجود في اللغة له معنيان معنى حقيقي ومعنى مجازي، فمعناه الحقيقي وضع الجبهة على الأرض، وهو ما يحصل من العاقل المطيع، ومعناه المجازي التعظيم والخضوع والانقياد، وهو ما يحصل من غير العاقل، وقد استعمل السجود بمعنييه في هذه الآية الكريمة.
فسجود العاقل في الآية سجود حسي وسجود غيره سجود معنوي.
قال الراغب الأصفهاني بعد أن تكلم على أصل السجود، وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله وعبادته: وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد، وذلك ضربان: سجود باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان، وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا {النجم: 62}. أي تذللوا له.
وسجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد، وعلى ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ {النحل: 48}. فهذا سجود تسخير وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم.
والآية التي بين أيدينا شملت النوعين من السجود: التسخير والاختيار، ومثلها قول الله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ {النحل: 49}.
وهذه الآيات وما أشبهها تدل دلالة واضحة على أن هذا الكون كله ما نشاهد منه وما غاب عنا يسجد لله سبحانه وتعالى ويسبح بحمده بالكيفية التي يعلمها ويريدها سبحانه وتعالى، وكون البشر لا يشاهدون كيفية هذا السجود أو لا يسمعون هذا التسبيح بحواسهم، فإن المؤمن العاقل المتأمل فيما حوله يدرك أن كل شيء في هذا الكون خاضع لخالقه وسائر وفق أمره... لا يشذ عن ذلك إلا من أشرك بالله، ولم يقبل هداه، ولهذا قال سبحانه وتعالى رداً على من أشرك به: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ {الإسراء: 43-44}.
قال ابن كثير: لا تفقهون تسبيحهم، لأنها بخلاف لغاتكم.
ويقول سيد قطب في تفسير الظلال: لا تفقهون تسبيحهم لأنكم محجوبون بصفاقة الطين، ولأنكم لم تستمعوا بقلوبكم، ولم تتوجهوا إلى أسرار الوجود الخفية.. وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ومدبر هذا الكون... وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ويتوجه بالتسبيح، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية السارية في ضمير هذا الوجود، النابضة في كل متحرك وساكن وفي كل شيء في هذا الوجود.
ويقول الألوسي في تفسير روح المعاني: وقد ذكروا أن الذكر (ذكر الله تعالى)، إذا تمكن في العبد سرى في جميع أجزاء البدن، فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكراً، فإذا ترقى حاله سمع كل ما في عالم الملك كذلك، فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك... (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
ومعنى الآية - كما قال أهل التفسير-: ألم تر أن الله يسجد له... الرؤية هنا رؤية القلب وهي للعلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك (يسجد له) يخضع لعظمته كل شيء طوعاً وكرها، الملائكة في أقطار السماوات، والإنس والجن وسائر المخلوقات.. قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة.
(وكثير من الناس) أي المؤمنين الموحدين.. الذين يسجدون لله تعالى طوعاً وعبادة... (وكثير حق عليه العذاب) وهم الكفار لعدم سجودهم طوعاً.
والله أعلم.