عنوان الفتوى : الرد على شبهة بناء أبي جندل مسجداً على قبر أبي بصير
سأل أحدهم مفتي مصر عن حكم بناء المساجد على القبور فأجازه وحجته أن أبا بصير لما مات في سيف البحر بنوا على قبره مسجدا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إن الحديث رواه موسى بن عقبة عن المسو... فلما قيل له ماذا عن حديث (قاتل الله اليهود....) قال: المقصود به أنهم سجدوا لهم لا أنهم بنوا عليهم مساجد وحجته بزعمه (وقالت اليهود عزير بن الله) الآية الكريمة.... أرجو منكم كتابة رد خاص لي لكي يتسنى لي أن أرسله إلى من فتن به، مع ذكر أقوال أهل العلم مع المخالف منهم بحجته والرد عليها... وهل الحافظ ابن حجر لم يذكر شيئاً عن هذا في الفتح عن هذا الشأن كما زعم الرجل؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبناء المساجد على القبور من المحدثات المخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعلها، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 1530.
قال ابن حجر الهيتمي في كتاب الزواجر: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون،اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً والطواف بها واستلامها والصلاة إليها. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك. وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسوية القبر وإما بنبشه وإن كان جديداً، وإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد أو تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهي عنه. انتهى.
أما الاحتجاج ببناء أبي جندل مسجداً على قبر أبي بصير فشبهة لا تساوي حكايتها كما قال الشيخ الألباني، وقد أجاب عنها من وجهين: الأول: رد الثبوت من أصله، قال رحمه الله: ليس له إسناد تقوم به الحجة، ولم يروه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم، وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير في الاستيعاب مرسلاً، فقال: وله قصة في المغازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب.... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر عن أبي بصير بأتم ألفاظاً (.... فدفنه أبو جندل وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً) فأنت ترى هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير سمع أنس، وإلا فهي معضلة، بل هي عندي منكرة، لأن القصة رواها البخاري وأحمد دون هذه الزيادة، ورواها ابن إسحاق في السيرة عن الزهري مرسلاً كما في مختصر السيره لابن هشام، ووصله أحمد في طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة، وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة لإعضالها وعدم رواية الثقات لها.
الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:
الأول: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره.
الثاني: لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته. انتهى باختصار بسيط من تحذير الساجد عن اتخاذ القبور مساجد.
وقال الحافظ ابن حجر: ولمسلم من حديث جندب أنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك قبل أن يتوفى بخمس.... وفائدة التنصيص على زمن النهي الإشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لم ينسخ لكونه صدر في آخر حياته. انتهى.
أما حمله لأحاديث اللعن على السجود للقبر فهذا المعنى قد ورد في بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا عليها. رواه ابن حبان، ولكن لا يمنع من تحريم بناء المساجد على القبور الثابت في الأحاديث المتواترة كحديث عائشة: .... إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، أو صوروا فيه تلك الصور. متفق عليه.
ولهذا قال البخاري (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور). قال الحافظ ابن حجر: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر ومفهومها متغاير ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغير المفهوم. انتهى. وهو ما أشارت إليه عائشة بقولها: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
والله أعلم.