عنوان الفتوى : هل يجوز حضور خطبة الجمعة عند من يخطب خطبة واحدة؟
الخطبتان شرط من شروط الجمعة. أذهب إلى مسجد يخطب أحيانا بخطبتين وأحيانا واحدة. هناك مسجد بعيد يخطب بخطبتين طوال الوقت. ماذا أفعل إذا دخلت المسجد وتبين أنه لا يخطب إلا خطبة واحدة ، هل أترك وأصلي الظهر؟ هل آثم إذا أتيت ذلك المسجد وأنا أعلم أنه أحيانا لا يخطب إلا بخطبة واحدة؟
الحمد لله.
أولاً:
اتفق الفقهاء على أن خطبة الجمعة واجبة، وأن الجمعة لا تتم إلا بها.
قال ابن عبد البَرِّ رحمه الله: "الإجماع منعقد أن الإمام لو لم يخطب بالناس لم يصلوا إلا أربعا" انتهى من "الاستذكار" (2/ 31).
وقال ابن قدامة رحمه الله: " "الخطبة شرط في الجمعة، لا تصح بدونها. كذلك قال عطاء، والنخعي، وقتادة، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. ولا نعلم فيه مخالفا، إلا الحسن" انتهى من "المغني" (3/ 170).
ثانياً:
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب الخطبتين في الجمعة، وأنّ الصلاة لا تصح بدونهما.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب في الجمعة خطبتين يجلس بينهما، ومن بعده فعله الخلفاء الراشدون. وتناقلت الأمة هذا الهدي قولا وعملا.
فعن جابِرِ بنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ قائمًا، ثم يَجلِسُ، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا" رواه مسلم (862).
وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: "كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُبُ قائمًا، ثم يَقعُد، ثم يقومُ، كما تَفعَلون الآنَ" رواه البخاري (920) ومسلم (861) .
قال ابن قدامة رحمه الله: "يشترط للجمعة خطبتان. لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب خطبتين، كما روينا في حديث ابن عمر، وجابر بن سمرة، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلى).
ولأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فكل خطبة مكان ركعة، فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين" انتهى من "المغني" لابن قدامة (3/ 173).
وقال النووي رحمه الله: "والجمعة لا تصح إلا بخطبتين، قال القاضي : ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة" انتهى . شرح النووي على مسلم (6/ 150).
وعلى ذلك؛ فإذا كان في مكان إقامتك مسجد يخطب للجمعة خطبتين، على ما جاءت به السنة، واشترطه أكثر أهل العلم: فيلزمك أن تصلي معهم الجمعة، وليس لك أن تصلي في مسجد يصلي الجمعة بخطبة واحدة، ولو أحيانا وأحيانا؛ فإنك لا تأمن أن يصلي بخبطة واحدة في نوبة حضورك؛ بل يلزمك أن تحتاط لعبادتك، وتحضر الجمعة التي هي شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، مع من يقيمها على الوجه الذي جاءت به السنة، وتصح به الجمعة عند عامة أهل العلم؛ ولا تغرر بعبادتك، وتصلي مع من يقول أهل العلم إن صلاتهم لا تصح جمعة، ويلزمهم أن يعيدوها ظهرا، إن لم يمكنهم تدارك الجمعة على الوجه المشروع.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (89676)
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله: " حدث أن خطب الإمام يوم الجمعة خطبة واحدة، وهو رجل صلى بالنيابة عن الإمام لغياب الإمام، وهو كبير السن، وبعد نهاية خطبته الأولى قال للناس: قوموا للصلاة. فالناس قاموا وصلوا، ثم اختلف بعد ذلك كثير من الناس، هل الصلاة صحيحة أم لا؟ وأردنا من سماحتكم الإفادة؟".
فأجاب: " الصلاة غير صحيحة، وعليه أن يرجع ويخطب الخطبة الثانية، ثم يعيد الصلاة. فلا بد من خطبتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهما شرط لصحة الصلاة، هذا هو الأصح، فعلى هذا الرجل أن يعيد الصلاة وأصحابه عليهم أن يعيدوا عليه وعلى أصحابه أن يعيدوا الصلاة ظهرا، وفي المستقبل لا بد من خطبتين قبل الصلاة". انتهى، من "فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر". (13/ 222).
وسئل أيضا: " شخص يخطب الجمعة خطبة واحدة، هل يكون قد خالف السنة بذلك؟".
فأجاب: " نعم، لا بد من خطبتين، من شرط صحة الجمعة خطبتان، كما كان النبي يفعل صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يخطب إلا خطبة لم تصح الجمعة، بل عليه أن يأتي بالخطبة الثانية ويعيد صلاة الجمعة" انتهى، من "فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر" (13/ 295).
وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله: هل تجوز صلاة الجمعة بخطبة واحدة".
فأجاب: " لابد لصلاة الجمعة من خطبتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخطب للجمعة خطبتين. ويقول عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).
فلو اقتصر على خطبة واحدة، لكان على غير هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلا تصح جمعتهم.
فالجمعة لا بد فيها من خطبتين. وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب خطبتين، ويفصل بينهما بجلوس؛ فلا يكفيه أن يفصل بينهما بالسكوت، بل يجلس؛ والجلوس بين الخطبتين من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو سنة مؤكدة، ولا يتحقق الفصل بين الخطبتين إلا بالجلوس" انتهى، من فتاوى نور على الدرب للعثيمين" (8/ 2 بترقيم الشاملة آليا).
وسئل الشيخ ابن عثيمين أيضا: " حصل أن سها الخطيب وخطب بالناس خطبة واحدة، صلى بعدها بالناس، والسؤال يا فضيلة الشيخ هو: هل هذه الجمعة صحيحة أم لا؟ وهل تلزم الإعادة للإمام والمأمومين، أم الإمام فقط، فيصليها ظهراً؟ وفقكم الله وسدد خطاكم وجزاكم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء؟".
فأجاب: " يجب على الإمام والمأمومين أن يعيدوها ظهراً. 24/3/ 1416ه". انتهى، من مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (16/ 79).
ثالثا:
إذا ذهبت إلى مسجد، ولم تكن تعلم أنه يصلي الجمعة بخطبة واحدة، فوجدته كذلك؛ فليس لك أن تترك الصلاة مع جماعة المسلمين، لأجل ذلك. بل عليك أن تصلي معهم بصلاة الإمام، ولا تختلف عليه.
فإن كان يمكنك بعد ذلك أن تدرك الجمعة في مسجد آخر في حيك، أو قريب منك، تبلغه قبل أن يفرغ من الصلاة؛ فاذهب إليهم، وصل معهم الجمعة.
وإن لم يمكنك ذلك؛ فالظاهر أنه لا حرج عليك لو اكتفيت بصلاتك مع الإمام الأول، وإن كان قد صلى بخطبة واحدة. فاشتراط الخطبتين ليس من مسائل الإجماع بين أهل العلم، بل فيها خلاف معتبر؛ وإن كان الراجح ما قدمنا من اشتراط خطبتين، وعليه فتاوى مشايخنا من أهل العلم؛ لكن ذلك لا ينفي الخلاف المعتبر في المسألة.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال مالك، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي: يجزئه خطبة واحدة. وقد روى عن أحمد ما يدل عليه" انتهى من "المغني" لابن قدامة (3/ 173).
ولو احتطت، والأمر كذلك، فأعدت صلاتك ظهرا، لكان أحسن.
وأما لو لم يكن في مكان إقامتك من يصلي الجمعة بخطبتين، أو كان، ويبعد عنك مكانه، وغلب على ظنك أنك لن تدركه إلا بعد فوات الجمعة معه، فصل مع من يصلي الجمعة، ولو بخطبة واحدة.
واجتهد في نصيحة هذا الإمام: أن يقيم الصلاة بالناس على ما جاءت به السنة، ولا يغرر بعبادتهم، ولا يعرضهم للحرج والإعنات، إذا كان في أهل المكان من لا يرى الصلاة بخطبة واحدة؛ فما الذي يحوجه إلى ذلك؛ فليصل بخطبتين، تصح صلاته وجمعته، وجمعة من معه: باتفاق الناس، وتأتلف القلوب عليه، ولا يوقع من معه في حرج.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " خطيب الجمعة في بلدي يخطب خطبة واحدة لا يجلس فيها الجلسة المعتادة من قبل الخطباء، هل يعتبر هذا مخالف للسنة؟".
فأجاب: " نعم، هذا مخالف للسنة بلا شك؛ فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يخطب في يوم الجمعة بخطبتين، يفصل بينهما بجلوس، بل إن أكثر أهل العلم يقولون: إن صلاة الجمعة لا تصح؛ لأن من شرط صحة صلاة الجمعة أن يتقدمها خطبتان.
وعلى هذا؛ فبلّغ هذا الإمام أن عمله هذا مخالف للسنة، وأن عمله هذا مقتضٍ عند كثير من العلماء ألا تصح جمعته، وقل له يتقي الله عز وجل، ويتابع النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. نسأل الله لنا وله الهداية". انتهى، من موقع الشيخ.
فإن لم يستجب لك، أو غلبته جماعة المسجد على ذلك؛ فصل معهم، ولا يظهر أنه يلزمك أن تعيدها ظهرا، فقد فعلت ما أمكنك، والجمعة إنما تكون مع الناس، وهذه هي الجمعة التي في إمكانك أن تشهدها. وفي مسائل الخلاف المعتبر بين أهل العلم، يشرع للمأموم أن يصلي خلف إمام يخالف مذهبه، ولو كان يفعل ما هو مقتض للبطلان عند المأموم، أو يخل بما هو واجب، أو شرط عند المأموم.
قال ابن قدامة رحمه الله :
"فأما المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة , ومالك , والشافعي : فالصلاة خلفهم صحيحة غير مكروهة ، نصَّ عليه أحمد ; لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم : لم يزل بعضهم يأتم ببعض , مع اختلافهم في الفروع , فكان ذلك إجماعاً" انتهى، من "المغني" ( 2 / 11 ).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " عن أهل المذاهب الأربعة: هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض؟ ... وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته معه صحيحة والمأموم يعتقد خلاف ذلك. فهل يجوز ذلك؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟ أم لا؟
فأجاب: نعم تجوز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها.
ولم يقل أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم: منهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك...." انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 373-375).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (148123) ورقم (495473) ورقم (147193)
والله أعلم