عنوان الفتوى : لا دلالة في القرآن والسنة على وجوب الأمر بالمعروف عند خشية القتل أو التلف
كيف نوفق بين: أن من شروط الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن يأمن من الضرر على نفسه، وبين قوله تعالى: ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-، في الحديث: ( لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق، إذا رآه، أو شاهده...) الحديث.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس في الآية، أو الحديث إيجاب الأمر بالمعروف حال خشية الآمر على نفسه القتل، أو التلف.
فإن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {المائدة: 54}، هو في اللوم، والعتاب، والاعتراض باللسان، لا في الخشية على النفس من القتل، والتلف.
قال ابن القيم في الكلام على مسألة السماع: وصفهم بست صفات: أحدها: محبتهم له. والثانية: محبته لهم. والثالثة: ذلُّهم، ولينُهم على أوليائه. والرابعة: عِزّهم، وشدّتهم على أعدائه. والخامسة: جهادهم في سبيله. والسادسة: احتمالهم لومَ الخلق لهم على ذلك، وأنهم ليسوا ممن يصدُّه الكلامُ، والعَذْلُ عن الجهاد في سبيل الله... فالأقسام ثلاثة: أحدها: مَن يصدُّه اللوم عن مَحابِّ الله. والثاني: مَن لا تأخذه في محبة الله لومة لائم. والثالث: من يُظهِر ما يُلام عليه؛ إخفاءً لقيامه بمحابِّ الله. فالأول مفرِّط، والثالث مؤمن ضعيف، والوسط هو الوسط الخيار، وهو المؤمن القوي، والمؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وأعلى ما يحبه الله، ورسوله الجهاد في سبيل الله، واللائمون عليه كثير، إذ أكثرُ النفوس تكرهه، واللائمون عليه ثلاثة أقسام: منافق، ومخذِّل مفتِّر للهمة، ومُرجِف مُضعِف للقوة والقدرة .اهـ.
وأما حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام خطيبا، فكان فيما قال: ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق، إذا علمه. أخرجه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، فلا دلالة فيه على إيجاب الأمر بالمعروف حال خشية التلف.
جاء في إنجاح الحاجة للمجددي الحنفي: الهيبة قد تكون بخوف تلف النَّفس، وَالْمَال، فالأمر للعزيمة، لَا للْوُجُوب، فَإِن الْإِجْمَاع على أن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ يسْقط فِي هَذِه الْحَالة، بل يجوز إجراء كلمة الْكفْر على اللِّسَان؛ لقَوْله تَعَالَى: إلا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان، لَكِن الْعَزِيمَة فعله؛ لِأَن أفضل الْجِهَاد كلمة عدل عِنْد سُلْطَان جَائِر، وَقد فعل ذَلِك أَبُو سعيد، حِين بنى كثير بن الصَّلْت منبرا فِي الْمصلى، وَقدم مَرْوَان الْخطْبَة على الصَّلَاة فِي يَوْم الْعِيد، وَأما الهيبة بِسَبَب الطعْن، والملامة فَلَيْسَتْ بِشَيْء، وَلَا يبعد أن تكون هِيَ مُرَادة فِي الحَدِيث، فقد ورد، قل الْحق، وَلَو كَانَ مرا، وَلَا تخف فِي الله لومة لائم، فعلى هَذَا الحَدِيث على ظَاهره، لَيْسَ للتأويل فِيهِ مساغ. انتهى.
والله أعلم.