عنوان الفتوى : وجوب مراعاة التأدب مع الوالد وحسن صحبته والنصح باللطف
أنا شاب عمري 16، وأبي عمره 62 عاما، علاقتي بوالدي سيئة نوعا ما؛ للعديد من الأسباب، أطرحها لكم، وماذا علي أن أفعل معه شرعا، وهل علي ذنب؟
أبي منذ الصغر كان يعنف أخواتي الكبار، ولكن عندما كبر توقف عن تعنيفهن، واتباع هذا الأسلوب الخاطئ في التربية، ولكن كان ذلك بعد أن أصبحت أختي الكبيرة تعاني من مشاكل نفسية، وأبي لم يكن أبدا صديقي، وللأسف لم يكن سهلا، أو لينا مع الآخرين، بل دائما ما يفتعل المشاكل؛ لأسباب تافهة، ولديه العديد من المواقف السيئة التي لن تنسى أبدا مع عائلة والدتي، ومع الجيران، وحارس السكن، وأصدقائه في العمل.
ذات مرة كنا في عزاء جد أمي -رحمه الله-، وكنت صغيرا معه، فأثناء جلوسه في العزاء وجد بعض الناس يدخنون السجائر في العزاء، فقام بنصحهم بغلظة، وبصوت مرتفع، ولم يستمعوا له، فترك العزاء بالكامل، ورحل، ولديه العديد من المواقف السيئة مع خالي -رحمه الله-؛ لأنه كان مدخنا، فيقوم بالصراخ عليه دائما عندما يجده، وذلك أمام أبنائه، وأمام العائلة، وقس ذلك على الناس جميعا، وحاولنا -جميعا- نصحه العديد من المرات، ولكنه عنيد للغاية، ولا يسمع نصيحة أحد، وعندما أتكلم معه يقول لي: "هل تفهم أكثر مني"، لذلك صراحة أصبحت أتجنبه، ولا أحب أن أمشي معه؛ خشية أن يفتعل مشاكل بلهاء مع جيراني، وأصحابي، وأن يخسروني بسبب قوله، وطريقته الفظيعة، ولكنه ينزعج من ذلك، وأنا لا أمشي معه، فهو يريدني معه في كل مكان يذهب إليه، وأصبحت لا أطيق الحديث معه؛ لأنه لا يستمع لي، هو فقط يتكلم، ويسفه قولي، ويعاند بطريقة شديدة، وكأنه معصوم، لا يخطئ أبدا، وكثيرا ما يجتمع الجيران على رأي، ونحن كأسرة، وهو الوحيد الذي يخالف؛ لأسباب هي منطقية في رأيه الخاص، وقناعاته التي لم يستطع أحد تغييرها.
فهل علي ذنب؛ لتجنبي له؟ علما بأني نصحته كثيرا، وماذا علي أن أفعل معه، وماذا أفعل عندما أكون موجودا معه، وهو يفتعل المشاكل؟
وشكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فحق أبيك عليك عظيم، ولو فرض أنّ فيه خشونة في الطبع؛ فهذا لا يسقط حقّه عليك؛ فقد أمر الله الولد بمصاحبة والديه بالمعروف، وإن كانا يجاهدانه؛ ليشرك بالله.
فلا تجوز لك مجافاة والدك، وامتناعك من طاعته في مصاحبته، والسير معه حيث يشاء؛ فطاعته واجبة في ذلك ما دمت قادرا من غير ضرر يلحقك، حتى وإن كان فيه مشقّة عليك.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: وَيَلْزَمُ الْإِنْسَانَ طَاعَةُ وَالِدِيهِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ ...، وَهَذَا فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا، وَلَا ضَرَرَ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. انتهى من الفتاوى الكبرى.
واعلم أنّ كلامك عن أبيك على النحو الذي ذكرته، ووصفك لأفعاله بهذه الأوصاف السيئة؛ مناف لما يجب أن يكون عليه الولد مع أبيه؛ فالتواضع للوالد، والتوقير له، والذلة، وخفض الجناح له؛ مأمور بها شرعا، قال تعالى: ..إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا {الإسراء: 23}.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا: أي لينا لطيفا مثل: يا أبتاه، ويا أمّاه من غير أن يسميهما، ويكنيهما. قال عطاء، وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: وقل لهما قولا كريما، ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب، للسيد الفظ الغليظ. انتهى.
وقال: فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في ..... ذلة في أقواله، وسكناته، ونظره. انتهى.
ولا مانع من النصيحة له بالرفق في الأمور؛ مع مراعاة التأدب المطلوب مع الوالد؛ فإنّ نصح الوالدين، وأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر ليس كأمر، ونهي غيرهما.
قال ابن مفلح الحنبلي -رحمه الله-: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، يُعَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَلَا إسَاءَةٍ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ. انتهى من الآداب الشرعية.
واعلم أنّ بر الوالدين من أعظم أسباب رضوان الله، ودخول الجنة،
ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ: رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرب في سخط الوالد.
والله أعلم.