عنوان الفتوى : توجيه القراءتين في سؤال الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} و {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ}

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

عندما تختلف القراءات في المعنى والمعلومة كيف يمكن الجمع بينها؟
على سبيل المثال: هل الحواريون قالوا: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ " أو قالوا: "هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ"؟
عائشة قالت إن الحواريين قالوا: "تَسْتَطِيعُ" كأنها رجحت هذه القراءة على الأخرى، فإذا قالوا: "تَسْتَطِيعُ" فماذا بالقراءة "يَسْتَطِيعُ"؟
لم أقف على تفسير يحل هذا الإشكال.

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالقاعدة عند أهل العلم أن القراءات المختلفة تُنزَّل منزلة الآيات المختلفة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: قد بينا أن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات. اهـ.

وقال ابن القيم في «حادي الأرواح»: إنَّ ‌القراءتين ‌كالآيتين، فمن قرأ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21]، فهذا في حقِّ البالغين الَّذين يصحُّ نِسْبَة الفعل إليهم، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، ومن قرأ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ}، فهذا في حقِّ الصغار الَّذين أَتْبَعَهُمُ اللَّه آباءهم في الإيمان حُكْمًا، فدلَّت القراءتان على النوعين. اهـ.

وقال الشوكاني في «فتح القدير»: قد تقرر أن ‌القراءتين ‌بمنزلة ‌الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. اهـ.

وبذلك يظهر أن اختلاف القراءات فيه زيادة في المعنى، مع فائدة الإيجاز في اللفظ.

ولذلك قال السيوطي في «الإتقان» في بيان فوائد اختلاف القراءات: ومنها المبالغة في إعجازه بإيجازه؛ إذ ‌تنوع ‌القراءات ‌بمنزلة ‌الآيات، ولو جُعِلَتْ دَلَالَةُ كُلِّ لَفْظٍ آيَةً عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَخْفَ ما كان فيه من التطويل، ولهذا كان قوله: {وأرجلكم} منزلا لغسل الرجل والمسح على الخف، واللفظ الواحد لكن باختلاف إعرابه. اهـ.

وهذا لا يقتصر على الأحكام، بل يأتي أيضا في القصص القرآني، فتعدد القراءات في القصة الواحدة يوسع المعنى ببيان أحوال مختلفة، مع الإيجاز في اللفظ، فكل قراءة تبين جانبا من جوانب القصة، وطرفا من محاوراتها، كما في قول موسى عليه السلام: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]. فقد قرأ الكسائي بضم التاء، وقرأ الباقون بفتحها.

قال ابن خالويه في (الحجة في القراءات السبع): الحجة لمن فتح: أنه جعل التاء لفرعون دلالة على المخاطبة. والحجة لمن ضمّ: أنه جعل التاء لموسى دلالة على إخبار المتكلّم عن نفسه.

فإن قيل: فما وجه الخلف في هذه الآية؟ فقل: الخلف في القرآن على ضربين: خلف المغايرة، وهو فيه معدوم، وخلف الألفاظ، وهو فيه موجود.

ووجه الخلف في هذه الآية: أنّ موسى قال لفرعون لما كذّبه ونسب آياته إلى السّحر: لقد علمت أنها ليست بسحر، وأنها منزّلة. فقال له فرعون: أنت أعلم، فأعاد عليه موسى: لقد علمت أنا أيضا أنّها من عند الله. اهـ.

وعلى هذا النحو توجه القراءتان في سؤال الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} و {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} فكل من العبارتين نطق بها الحواريون في موضع من مواضع محاورتهم لعيسى -عليه السلام- وذلك بحمل القصة على أنهم طلبوا مرتين، وسألوا سؤالين.

كما يفهم من كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، حيث قال: قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف.

ومضمون ذلك: أن عيسى -عليه السلام- ‌أمر ‌الحواريين ‌بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها، وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم، وتكون كافية لأولهم وآخرهم، لغنيهم وفقيرهم. فوعظهم عيسى -عليه السلام- في ذلك، وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عز وجل. فلما لم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه، ولبس مسحا من شعر، وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء، وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا، فأنزل الله -تعالى- المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين. اهـ.

فكأنهم خاطبوا عيسى بذلك مرتين، فقالوا له أولا: هل تستطيع سؤال ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟! فعظُم ذلك على عيسى وخاف عليهم، فوعظهم ونهاهم، فأصروا وقالوا له: {هل يستطيع ربك ...} بمعنى هل هو فاعل ذلك بسؤالك إياه.

وإلى نحو هذا ذهب بعض الباحثين المعاصرين في بحث له بعنوان: (أثر القراءات المتواترة في عرض قصص الأنبياء دراسة استقصائية تطبيقية) نشر في مجلة الجامعة الإسلامية العدد 203 ص 80، وفيه: قالوا لعيسى كما في قراءة الكسائي: هل تستطيع أن تدعو لنا ربك أن ينزل علينا هذه المائدة؟ ثم قالوا له بعد ذلك على جهة الاستخبار كما في قراءة الجماعة: وهل يستجيب لك ربك ويرضى إذا سألته لنا ذلك؟ ...

وفي كل قراءة من القراءتين معنى بارز، ففي قراءة الجماعة إظهار قدرة الله تعالى وعظمته، وفي قراءة الكسائي بيان منزلة عيسى عليه السلام عند الله. اهـ.

فلا وجه لإنكار أي من القراءتين، فلكل منهما معنى صحيح.

قال ابن خالويه في «الحجة في القراءات السبع»: قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}. يقرأ بالياء والرفع، وبالتاء والنصب.

فالحجة لمن قرأ بالرفع: أنه جعل الفعل لله -تعالى- فرفعه به، وهم في ‌هذا ‌السؤال ‌عالمون أنه يستطيع ذلك، فلفظه لفظ الاستفهام، ومعناه معنى الطلب والسؤال.

والحجّة لمن قرأ بالنصب أنه أراد: هل تستطيع سؤال ربك؟ ثم حذف السؤال، وأقام (ربك) مقامه كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يريد: أهل القرية. ومعناه: سل ربك أن يفعل بنا ذلك، فإنه عليه قادر. اهـ.

وقال القاضي أبو محمد ابن عطية في المحرر الوجيز: قرأ جمهور الناس {هل ‌يستطيع ‌ربّك} بالياء ورفع الباء من ربك. وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر كامنة بمعنى: هل يفعل تعالى هذا؟ وهل تقع منه إجابة إليه؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل: تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله؟ أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة، فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير: {هل ‌تستطيع ‌ربّك} بالتاء ونصب الباء من ربك. المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت ‌عائشة -رضي الله عنها-: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل ‌يستطيع ‌ربك.

قال القاضي أبو محمد: نزهتهم ‌عائشة عن بشاعة اللفظ، وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله -تعالى- على ما قد تبين آنفا. اهـ.

وما روي عن عائشة أو غيرها مما يفهم منه إنكار القراءة، يحمل إنكارهم على عدم بلوغها إليهم من وجه قطعي، فيعتذر عنهم، ولكن لا يقبل قولهم؛ ما دامت القراءة ثابتة متواترة، وهذا كنحو ما ورد عن عائشة حينما سألها عُروة بن الزبيرِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ {يوسف: 110} قَالَ: قُلْتُ: أَ {كُذِبُوا} أَمْ {كُذِّبُوا}؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: {كُذِّبُوا}. قُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمْرِى يا عُرَيَّةُ! لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهَا: لَعَلَّها {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخفَّفةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ! لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ» رواه البخاري.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف، بناء على أن الضمير للرسل، وليس الضمير للرسل على ما بينته، ولا لإنكار القراءة بذلك معنى بعد ثبوتها، ‌ولعلها ‌لم ‌تبلغها ‌ممن ‌يرجع إليه في ذلك. اهـ.

وهكذا نقول في ما روي عن عائشة في إنكار هذه القراءة: {هل يستطيع ربك}.

وهنا نؤكد على أن اختلاف القراءات إنما هو اختلاف تنوع وتغاير وتوسعة في المعنى، ولا اختلاف تناقض أو تضاد.

قال الباقلاني في «الانتصار للقرآن»: ليس في جميع ‌القراءات المنزَّلة التي يسوغُ الاختلاف فيها وصوب القارئون لسائرها ما يتضادُّ معناهُ وينفي بعضُه بعضاً، وإنَّما فيه ‌مختلفُ اللفظ والإعراب، وإن كان معناه ‌واحداً ‌ومختلفُ الصورة واللفظ والإعراب والبناء، لتضمُّنه معاني ‌مختلفةً غيرَ متضادةٍ ولا متنافيةٍ ...

وإنما المحالُ المنكَر أن يكون فيه ‌قراءات متناقضة متضادةُ المعاني، والله تعالى عن إنزالِ ذلك وتصويب جميع القراءة به. اهـ.

وراجع في ذلك الفتوى: 4256.

والله أعلم.