عنوان الفتوى : حكم إخراج المصلي من صلاته إذا صلى في الطريق وسبب الزحام
ما حكم قطع صلاة المصلي بالمشاية (الطريق) من قبل رجل الأمن؛ لمنع الازدحام، وإعاقة طريق المصلين أوالطائفين؟
الحمد لله.
أولا:
تكره الصلاة عند جمهور الفقهاء في قارعة الطريق، وهو المكان الذي يمشي فيه الناس.
والعلة في النهي عن الصلاة فيها: أن المصلي في هذا المكان: قد تعدَّى على حق الناس، وضيَّق عليهم طريقهم، ولما فيه من إشغال نفسه بالمارين من الناس، فيقل خشوعه في الصلاة.
والصلاة في قارعة الطريق مكروهة، وقد تكون حراماً إذا كان يضر الناس بمنعهم من المرور أو يعرض نفسه للضرر.
قال الحجاوي في "الإقناع" (1/129): " وتكره صلاته بموضع يُحتاج فيه إلى المرور" انتهى.
وفي "المحيط البرهاني" (2/219): "يكره للمسافر أن يصلي على الطريق، بل ينبغي له أن يتنحى عن الطريق؛ لأن الطريق مشغول بحق المسلمين، فهو كما لو صلى في أرض مغصوبة".
وقال ابن نجيم: "الصلاة في الطريق أي في طريق العامة مكروهة، وعلله في المحيط بما يفيد أنها كراهة تحريم بقوله: لأن فيه منع الناس عن المرور، والطريق حق الناس أعد للمرور فيه؛ فلا يجوز شغله بما ليس له حق الشغل". "البحر الرائق" (2/20)
والممرات التي جعلت في المسجد الحرام والمسجد النبوي لتنظيم دخول الناس وخروجهم: لها حكم طرق الناس العامة، فتكره الصلاة فيها، وقد تحرم: إن سببت ضررا أو أذى ، له أو لغيره ، أو حال بصلاته في هذا المكان بينهم وبين الدخول للمسجد.
قال الشرواني معقلا على كراهة الصلاة في الطريق: " قَوْلُهُ (أَوْ فِي طَرِيقٍ) أَيْ أَوْ شَارِعٍ، أَوْ دَرْبٍ ضَيِّقٍ، أَوْ نَحْوِ بَابِ مَسْجِدٍ، كَالْمَحَلِّ الَّذِي يَغْلِبُ مُرُورُ النَّاسِ بِهِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ ، كَالْمَطَافِ". "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج" (2/158)
وقال ابن حجر الهيتمي: "لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا الْمُرُورُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجِهِ، بَلْ كُلُّ مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ الْمُرُورُ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقًا - تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَالَ مُرُورِ النَّاسِ؛ كَمَنْ يُصَلِّي فِي الْمَطَافِ وَقْتَ طَوَافِ النَّاسِ؛ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَارَّةِ؛ كَالْمُصَلِّي فِي الطَّرِيقِ فِي الْبُنْيَانِ". "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/124)
ثانيا:
من صلى في هذه الممرات: فلا حرمة له، فيجوز لسائر المصلين المرور من أمامه، ولا يشمله الوعيد الوارد في النهي عن المرور أمام المصلي.
قال ابن العطار عن النهي عن المرور بين يدي المصلي: "وهذا إذا لم يكن المصلي متعديًا بوقوفه في الصَّلاة ؛ بأن يصلِّي في طريق النَّاس أو في غيرها ، إلى غير سترة ونحوها". انتهى من "العدة في شرح العمدة" (1/ 549).
وقال زكريا الأنصاري: " ومحل الحرمة : إذا لم يُقَصِّر المصلي بصلاته في المكان، فإن قصَّر، كأن وقف بقارعة الطريق: فلا حرمة، بل ولا كراهة"."أسنى المطالب" (1/ 184)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "المرور بين يدي المصلي محرم ، توعد عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله: (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ)....
ويستثنى من ذلك ما إذا كان المصلي[ا هو الذي اعتدى بوقوفه في هذا المكان، ففي مثل هذه الحال لا حرمة له، مثل الذين يصلون في مكان طواف الناس، فإن هؤلاء لا حرمة لهم ، ويجوز للإنسان أن يمر بين أيديهم ولو كانوا يصلون...
وكذلك لو قام الإنسان يصلى في طريق الناس، كما لو صلى مثلاً في باب المسجد الذي يحتاج الناس فيه إلى المرور، فإنه لا حق له في هذا ، فالمار بين يديه لا إثم عليه؛ لأن المصلي هو المعتدي حيث وقف في مكان الناس.
ومنه نعرف أن الذين يصلون في أمكنة مرور الناس : لا حرج على الإنسان إذا تخطى رقابهم ولو آذاهم ذلك؛ لأنهم هم المعتدون ؛ إذ إن الناس لا بد لهم من طريقٍ يعبرون به إلى داخل المسجد. وبه نعرف خطأ من يقفون في المسجد الحرام في الممرات التي أمام أبواب المسجد فتجدهم يقفون في هذه الممرات فيحجزون الناس من الدخول لجوف المسجد، مع أن جوف المسجد قد لا يكون فيه أحد، قد يكون واسعاً وفيه أمكنة ، لكن هؤلاء الذين وقفوا في ممرات الناس حالوا بين الناس وبين الوصول إلى هذه الأماكن الخالية.
وحينئذٍ لا يكون لهم حقٌ في هذا المكان، فللإنسان أن يتخطى رقابهم ولو تأذوا بذلك؛ لأنهم هم الذين وقفوا في مكان مرور الناس" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (8/2).
بل ذهب كثير من العلماء إلى استثناء المسجد الحرام عموما من حرمة المرور بين يدي المصلي؛ لما في المنع من المشقة والحرج.
ونقل ابن عابدين عن ابن الهمام قوله: "لا يُمنع المار داخل الكعبة وخلف المقام وحاشية المطاف، لما روى أحمد وأبو داود عن المطلب بن أبي وداعة : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم ، والناس يمرون بين يديه" انتهى من "حاشية ابن عابدين" (1/635).
وقال في كشاف القناع (1/ 375): " (أو يكن في مكة المشرفة : فلا) يرد المار بين يديه، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة والناس يمرون بين يديه ، وليس بينهما سترة، رواه أحمد وغيره" انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولا بأس أن يصلى بمكة إلى غير سترة، وروى ذلك عن ابن الزبير، وعطاء، ومجاهد.
قال الأثرم، قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟
فقال: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ثَمَّ، ليس بينه وبين الطواف سترة.
قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأن مكة مخصوصة".
"وقال المعتمر، قلت لطاووس: الرجل يصلي - يعنى بمكة - فيمر بين يديه الرجل والمرأة؟
فقال: أولا ترى الناسَ يبُكُّ بعضهم بعضا؟!
وإذا هو يرى أن لهذا البلد حالا ليس لغيره من البلدان، وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، ولذلك سميت بكة، لأن الناس يتباكون فيها، أي: يزدحمون ويدفع بعضهم بعضا، فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس" انتهى من "المغني" (3/ 89).
وينظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (3/646)، "شرح السنن" لابن رسلان (9/179).
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: ما حكم المرور بين يدي المصلي في الحرم المكي والمسجد النبوي؟
أجاب" الذي عليه أهل العلم أنه لا حرج في ذلك، وهكذا في المسجد النبوي؛ إذا كان فيه زحمة شديدة فالعلة واحدة، فالزحمة لا يشترط فيها السترة، وأما إذا أمكنه أن يصلي إلى حائط، أو إلى عمود من العمد في المسجد النبوي، فيفعل ذلك...
وهكذا المسجد الحرام فيه حكم هذا، فإنه في الغالب مظنة الزحام وعدم القدرة على دفع المار؛ فلهذا رأى أهل العلم المسامحة في المسجد الحرام؛ لأنه -لا سيما أيام الحج- في الغالب لا يستطاع دفع المار، وهو معفو عنه إن شاء الله، وأما المسجد النبوي فقد يكون فيه زحام وقد لا يكون فيه زحام، وإذا كان فيه زحام شديد فالأمر مثل ما في المسجد الحرام، يعفى عنه لأجل المضرة والعجز وعدم القدرة" انتهى من "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (29/ 325).
وعليه؛ فانه يجوز لرجال الأمن المرور بين يدي المصلين في المسجد الحرام إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويجوز لهم المرور بين يدي المصلين في المسجد النبوي إذا كان الزحام شديداً، أو دعت حاجة لفك الزحام وتنظيم المصلين، ولا تحصل إلا بالمرور بين يدي المصلين.
ثالثا:
هل لرجال أمن الحرمين قطع صلاة من يصلي في الممرات وإرغامهم على الخروج من الصلاة لفسح الطريق للناس؟
الذي يظهر والله أعلم: جواز ذلك، بشرط وجود الزحام، وحاجة الناس للمرور من هذا الطريق، بحيث يكون انتظارهم مؤديا للتكدس والتدافع.
وذلك لأن:
1-من صلى في الممرات فهو الذي قد اعتدى على حق غيره، وإخراجه من الصلاة رد لهذا الاعتداء.
2-أن الفقهاء رخصوا في قطع المصلي لصلاته عند وجود العذر.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (34 /51):" قطع العبادة الواجبة بعد الشروع فيها بلا مسوغ شرعي غير جائز باتفاق الفقهاء، لأن قطعها بلا مسوغ شرعي عبث يتنافى مع حرمة العبادة، وورد النهي عن إفساد العبادة، قال تعالى: ( وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ).
أما قطعها بمسوغ شرعي فمشروع، فتقطع الصلاة لقتل حية ونحوها للأمر بقتلها، وخوف ضياع مال له قيمة له أو لغيره، ولإغاثة ملهوف، وتنبيه غافل أو نائم قصدت إليه نحو حية، ولا يمكن تنبيهه بتسبيح، ويقطع الصوم لإنقاذ غريق، وخوف على نفس، أو رضيع " انتهى.
ومما يستدل به لهذا حديث الأَزْرَق بْن قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا - قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ - فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ، قَالَ: ( إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ غَزَوَاتٍ - أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ -أو ثَمَانِيَ، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ ) رواه البخاري (1211).
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: " ففى هذا حجة للفقهاء فى أن كل ما خشى تلفه من متاع، أو مال، أو غير ذلك من جميع ما بالناس الحاجة إليه أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك فى معنى قطع الصلاة لهرب الدابة " انتهى. "شرخ صحيح البخاري" (3/203).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وأشار أبو برزة بقوله: ( وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ ) إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته وفيه حجة للفقهاء في قولهم: أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله " انتهى. "فتح الباري" (3/82).
والعذر في الخروج من الفريضة أشد من العذر الذي يرخص بقطع صلاة النفل، فلهذا إذا كان المصلي في هذه الممرات في فرض، فلا يؤمر بقطع صلاته والانتقال إلى أماكن الصلاة إلا إذا خشي أن يتعثر به المارون فيلحقه أو يلحقهم الضرر، أو يعيق حركة الطائفين، وهذا إذا لم يتيسر دفعه برفق إلى مكان قريب.
وأما إن كان في نافلة وتطوع، فالنافلة على قول جمع من أهل العلم يجوز قطعها بلا حاجة ماسة، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (34 /51): " أما قطع التطوع بعد الشروع فيه فقد اختلف الفقهاء في حكمه فقال الحنفية والمالكية: لا يجوز قطعه بعد الشروع بلا عذر كالفرض ويجب إتمامه؛ لأنه عبادة.
وقال الشافعية والحنابلة: يجوز قطع التطوع، عدا الحج والعمرة، لحديث ( المتنفل أمير نفسه ) - أخرجه الترمذي من حديث أم هانئ بلفظ: ( الصائم أمير أو أمين نفسه ) -، ولكن يستحب إتمامه، أما الحج والعمرة فيجب إتمامهما، وإن فسدا إذا شرع فيهما، لأن نفلهما كفرضهما " انتهى.
3-ذكر الفقهاء أن للزوج إرغام زوجته على قطع صلاة النافلة من أجل حقه.
قال البهوتي : "ويجوز إخراج زوجة من نفل لحق زوجها". شرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/226 ط عالم الكتب)
فإذا جاز قطع صلاته من أجل حق الزوج وقد يسعه الانتظار، فقطعها لحق المصلين والطائفين أولى مع تعذر الانتظار ومشقته.
4-أن الفقهاء رخصوا في المرور أمام المصلي مع تحريمه وما ورد فيه من الوعيد بسبب الحاجة والزحام والمشقة، أو بسبب تعديه في صلاته بممراتهم، وقطع صلاته لأجل هذه المصالح قريب منه.
لكن لا ينبغي لرجال الأمن التعجل في قطع صلاة الناس لما يترتب عليه من مفاسد، كإيغار صدره، واحتمال ممانعته، فربما أدى ذلك إلى دفعه وإخراجه عنوة، وما يتبع ذلك من رفع للصوت، أو شجار وتلاسن، فيقع الظلم من الطرفين، والظلم في الحرم عظيم، والنافلة زمنها يسيير، فالأولى الصبر على من شرع فيها، ثم يستعان بالحواجز ونحوها لمنع الناس من البقاء في الممرات.
ولا يلجأ لهذا الخيار إلا عند الحاجة المعتبرة ووجود ضرر وأذى من انتظاره ريثما يفرغ من صلاته.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |