عنوان الفتوى : هل اللغة تستقل بتفسير القرآن؟
قال ابن عباس رضي الله عنه ما معناه: " التمسوا ما أشكل عليكم من فهم غريب القرآن من الشعر"، أو ما قاربه، أعذروني لا أذكر جيدًا، فهذا دل على إن ابن عباس رضي الله عنه كان يلتمس غريب القرآن من الشعر، وقد ظهر اليوم من برع في بيان الغريب من أصوله اللغوية، مثل "المعجم الاشتقاقي المؤصل". سؤالي هو: ما حكم تقديم الأصل اللغوي علي تفسير ابن عباس رضي الله عنه، وعلي تفاسير السابقين؟
الحمد لله.
أولًا:
"التفسيرُ اللغويُ: بيان معاني القرآن بما ورد في لغة العرب".
ينظر كتاب: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (38).
يقول الدكتور مساعد الطيار: "وقد جاءَ النَّصُّ على عربيةِ القرآنِ في غيرِ ما آيةٍ، منها: قولُه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، وقولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113]، وقولُه تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 28]، وقوله تعالى: وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: 12]، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]، وغيرُ هذه الآياتِ التي نَصَّتْ على عربيَّةِ القرآنِ.
ولما كانَ الأمرُ كذلكَ، فإنه لا يمكنُ العدولُ عن هذه اللُّغةِ التي نزلَ بها القرآنُ إلى غيرِها، إذا أُرِيدَ تفسيرُ الكتابِ الذي نزلَ بها؛ لأنَّ معرفةَ معاني ألفاظِه لا تؤخذُ إلَاّ منها.
قال ابن فارس (ت: 395): «إنَّ العلمَ بلغةِ العربِ واجبٌ على كُلِّ متعلقٍ منَ العلمِ بالقرآنِ والسُّنَّةِ والفُتْيَا بسببٍ، حتى لا غَنَاءَ بأحدٍ منهم عنه، وذلك أنَّ القرآنَ نازلٌ بلغةِ العربِ، ورسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عربيٌ.
فَمَنْ أرادَ معرفةَ ما في كتابِ اللهِ جلَّ وعزَّ، وما في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم من كلِّ كلمةٍ غريبةٍ أو نَظْمٍ عجيبٍ، لم يجدْ مِن العلمِ باللغةِ بُدًّا».
وقالَ الشَّاطبيُّ (ت: 790): لا بُدَّ في فَهْمِ الشَّريعةِ من اتباعِ معهودِ الأمِّيِّينَ، وهم العربُ الذين نزلَ القرآنُ بلسانِهم، فإنْ كانَ للعربِ في لسانِهم عُرْفٌ مُستمِرٌّ فلا يَصِحُّ العدولُ عنه في فَهْمِ الشَّريعةِ، وإنْ لم يكنْ ثَمَّ عُرْفٌ، فلا يَصِحُّ أنْ يُجْرَى في فَهْمِهَا على ما لا تعرفُه، وهذا جَارٍ في المعاني والألفاظِ والأساليبِ.
ويُفهمُ من ذلك أنَّ معرفةَ اللُّغةِ العربيَّةِ شرطٌ في فَهْمِ القرآنِ؛ لأنَّ من أرادَ تفسيرَه، وهو لا يَعْرفُ اللُّغةَ التي نزلَ بها القرآنُ، فإنه لا شَكَّ سيقعُ في الزَّلَلِ، بل سيحرِّف الكَلِمَ عن مَواضِعِهِ، كما حصلَ من بعضِ المبتدعةِ الذين حملوا القرآنَ على مصطلحاتٍ أو مدلولاتٍ غيرِ عربيَّةٍ"، انتهى من "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (40 - 41).
ثانيًا:
اعتنى السلف بالاستشهاد باللغة في تفسير القرآن الكريم، وهو على أقسام:
الأولُ: أنْ يذكروا معنى اللَّفظَةِ في اللُّغةِ، دونَ أنْ ينصُّوا على ما يدلُّ عليها من شعرٍ أو نثرٍ.
الثاني: أن ينصُّوا على الاستدلالِ بلغةِ العربِ في تفسيرِ اللَّفظةِ، وهو قسمانِ:
القسمُ الأولُ: أنْ يستشهدوا بالشِّعرِ.
القسم الثاني: أنْ يستشهدوا بالنَّثرِ، وهو نوعانِ:
النَّوعُ الأولُ: أنْ ينصُّوا على لغةِ القبيلةِ التي نزلَ القرآنُ بلفظِها.
النَّوعُ الثاني: أنْ يَرجعوا إلى منثورِ كلامِهِم دونَ أنْ ينصُّوا على لغةِ قبيلةٍ بعينِها.
انظر تفصيل هذه الأقسام في: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (68)، وما بعدها.
والصَّوابُ أنَّ الاستشهادَ بالشِّعرِ جائزٌ في التَّفسيرِ، وقد نصَّ على هذا المنهجِ ابن عباس (ت: 68)، فقال: إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب.
انظر: "إعراب القراءات وعللها" (1/29)، "سنن سعيد بن منصور": (2/ 317 - 318).
ورُوِيَ عن عمر أنه قال: أيها الناس، عليكم بديوانكم: شعر الجاهلية؛ فإن فيه تفسيرَ كتابِكم ومعاني كلامهم.
انظر: "التفسير البسيط" (1/402)، "الجامع لأحكام القرآن" (10/11).
وراجع للأهمية: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (158).
ثالثًا:
اللغة وحدها لا تستقل بتفسير القرآن الكريم.
يقول الدكتور "مساعد الطيار": "معَ ما سبقَ ذكرُهُ من أقوالِ العلماءِ في أهميةِ معرفةِ اللغةِ في تفسيرِ القرآنِ، إلَاّ أنهم ذكروا أنَّ اللغةَ بمجردِها لا تَسْتَقِلُّ به.
وهذا يعني أنَّ اللغةَ ليست المصدرَ الوحيدَ الذي يمكنُ لمنْ أحكمَهُ أنْ يفسرَ القرآنَ، إذْ لَا بُدَّ للمفسِّرِ منْ معرفةِ مصادرَ أُخرَى يعتمدُ عليها في تفسيرِه؛ كالسُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وأسبابِ النُّزولِ، وقصصِ الآيِ، وأحوالِ من نزلَ فيهم الخطابُ، وتفسيراتِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعيهِم، وغيرِها من المصادرِ التي لا يمكنُ أخذُها عن طريقِ اللُّغةِ.
وبهذا يُعلَمُ أنَّ التَّفسيرَ اللُّغويَّ جزءٌ من علمِ التَّفسيرِ، ومع أن حَيِّزَهُ كبيرُ، فإنَّه لا يَسْتَقِلُّ بتفسيرِ القرآنِ.
وهذا يفيدُ أنَّ اعتمادَ اللُّغةِ بمفردها، دون النَّظرِ في غيرِها من المصادرِ يوقعُ في الخطأ في التَّفسيرِ، إذ قد يكونُ المدلولُ اللُّغويُّ غيرَ مرادٍ في الآيةِ؛ كقوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة: 84].
فلو فسَّرتَ الصَّلاةَ بالمدلولِ اللُّغويِّ، لقلتَ: نُهِيَ الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم عنِ الدُّعَاءِ لهم.
ولكنَّكَ إذا نظرتَ إلى الواردِ في قصةِ الآيةِ، وهو ما رواه ابنُ عباسٍ (ت: 68) عن عمرَ بن الخطابِ قال: «لما مات عبدُ اللهِ بنُ أبي سَلُولٍ، دُعِيَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصليَ عليه، فلما قامَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَتُصَلِّي على ابنِ أبي سَلُولٍ، وقد قال يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟! قال: أُعدِّدُ عليه قولَه.
فتبسَّمَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أخِّرْ عني يا عمر، فلما أكثرتُ عليه، قال: إني خُيِّرتُ فاخترتُ، ولو أعلمُ أني إن زدتُ على السبعين يُغْفَرُ له، لزدتُ عليها.
قال: فصلَّى عليه رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثمَّ انصرفَ، فلم يمكثْ إلَاّ يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ـ إلى قوله ـ وَهُمْ فَاسِقُونَ ، قال: فَعَجِبْتُ من جُرأتي على رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، واللهُ ورسولُه أعلمُ»، وعلمتَ أنَّ المرادَ بها صلاة الجنازة = فإنه سيمنعُكَ ذلك من أنْ تَحْمِلَهَا على المعنى اللُّغويِّ"، انتهى.
انظر: "التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (50-51)، وينظر: "فتح الباري" (8/ 184-189)، وتفسير الطبري في تفسير الآيات.
ومن الأمثلة التي ذكرها د. مساعد الطيار لوقوع الخطأ في التفسير بسبب مخالفة اللغة للمصادر الأخرى في التفسير: أن "المفسِّرَ إذا جَهِلَ سَبَبَ النُّزولِ، فإنَّه قدْ يَحْمِلُ الآيةَ على مُحْتَمَلٍ لُغَويِّ، ويكونُ المعنى اللُّغويُّ الذي فسَّرَ به غيرَ مقصودٍ، ودليلُ عَدَمِ قَصْدِهِ سببُ النُّزولِ، أو قصَّةُ الآيةِ.
ومنْ أمثلةِ ذلكَ:
ما وردَ في تفسيرِ تثبيتِ الأقدامِ من قولِ اللهِ تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال: 11]، قالَ أبو عبيدةَ (ت: 210): مجازه: يُفرِغ عليهم الصبر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتون لعدوِّهم.
وقِصَّةُ نزولِ الآيةِ تدلُّ على أنَّ المعنى اللُّغويَّ الَّذي ذَكَرَه غيرُ مرادٍ، وأنَّ المُرادَ: يُثَبِّتُ أقدامَهم التي يمشونَ بها على الرَّمْلِ كي لا تَسوخَ فيه، كما وردتْ بذلكَ الرِّوايةُ عنِ السَّلَفِ، منها ما قالَ ابنُ عباسٍ (ت: 68): وذلك أنَّ المشركينَ من قريشٍ لما خرجوا لينصروا العيرَ ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماءِ يومَ بدرٍ، فغلبوا المؤمنينَ عليه فأصابَ المؤمنينَ الظَّمأُ، فجعلوا يُصَلُّونَ مُجنِبين مُحدثينَ، حتى تعاظَم ذلك في صدورِ أصحابِ رسول صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل اللهُ من السَّماءِ ماءً حتى سالَ الوادي، فشرِبَ المسلمونَ، وملأوا الأسقيةَ، وسَقَوا الرِّكابَ، واغتسلوا من الجنابةِ، فجعلَ اللهُ في ذلكَ طهوراً، وثبَّتَ الأقدامَ وذلكَ أنه كانت بينهم وبين القومِ رَمْلَةٌ، فبعث اللهُ عليها مطراً، فضربها حتَّى اشْتدَّتْ، وثبتتْ عليها الأقدامُ.
قالَ الطَّبريُّ (ت: 310): «وقد زعمَ بعضُ أهلِ العِلْمِ بالغريبِ من أهلِ البصرةِ، أنَّ مجازَ قوله: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ: ويُفْرِغ عليهم الصَّبَر، ويُنْزِلُه عليهم، فيثبتونَ لعدوِّهم. وذلكَ قَولٌ خِلَافٌ لِقَولِ جميعِ أهلِ التَّأويلِ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وحَسْبُ قولٍ خطأً أنْ يكونَ خلافاً لقولِ منْ ذَكَرْنَا. وقدْ بيَّنَّا أقوالَهم فيه، وأنَّ معناه: ويُثَبِتَ أقدامَ المؤمنينَ بتلبيدِ المطرِ الرَّمْلَ حتَّى لا تَسُوخَ فيه أقدامُهم وحوافرُ دوابِّهم»" انتهى من"التفسير اللغوي للقرآن الكريم" (639-640).
والحاصل:
أنَّ اللُّغةَ مصدرٌ من مصادرِ التَّفسيرِ، وهي وإن كانت من أكبرِ مصادرِه، إلَاّ أنَّها لا يُمكن أن تستقِلَّ بفَهمِ القرآنِ.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |