عنوان الفتوى : مبارك الإبل منهي عن الصلاة فيها، فلماذا بني المسجد النبوي عند مبرك الناقة؟
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في مبارك الإبل، وهناك من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء بمبرك ناقته، فهل الرواية صحيحة أم لا؟ وإذا كانت صحيحة، فكيف نوفق بين الروايتين؟
الحمد لله.
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجده عند مبرك ناقته.
فعند البخاري (3906) في قصة الهجرة: " فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ سَعدِ بْنِ زُرَارَةَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: (هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ).
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ: لاَ، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا ... ".
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في مبارك الإبل.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (نَعَمْ).
قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: (لَا) رواه مسلم (360).
ومبارك الإبل، هي:
"موضع بروكها، والبرك في اللغة الصدر، وإنما قيل: برك البعير لوقوعه على صدره، والمراد بمباركها: أماكن إقامتها " انتهى. من "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 457).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ ) رواه الترمذي (348)، وقال: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" أعطان إبل: جمع عطن، ويقال: معاطن جمع معطن، وأعطان الإبل فسرت بثلاثة تفاسير:
قيل: مباركها مطلقا، وقيل: ما تقيم فيه وتأوي إليه، وقيل: ما تبرك فيه عند صدورها من الماء؛ أو انتظارها الماء. فهذه ثلاثة أشياء.
والصحيح: أنه شامل لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه، كمراحها، سواء كانت مبنية بجدران أم محوطة بقوس أو أشجار أو ما أشبه ذلك، وكذلك ما تعطن فيه بعد صدورها من الماء.
وإذا اعتادت الإبل أنها تبرك في هذا المكان، وإن لم يكن مكانا مستقرا لها، فإنه يعتبر معطنا " انتهى من "الشرح الممتع" (2 / 242 – 243).
فمبارك الإبل المقصود بها هنا أماكن إقامتها المعتادة، التي تأوي إليها، وليس كل مكان بركت فيه لعارض، فلو كان هذا المقصود لشق على الناس، ولأصبحت كثير من الأماكن في بلاد العرب ينهى عن الصلاة فيها.
فبروك الناقة في قصة بناء المسجد هو بروك عارض، وليس هو المكان الذي تأوي إليه وتقيم فيه، فليس داخلا في النهي.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" أما مبرك الإبل الذي بركت فيه لعارض ومشت، فهذا لا يدخل في المعاطن؛ لأنه ليس بمَبْرك " انتهى من "الشرح الممتع" (2/243).
ولو فرض أن هذا المكان الذي بركت فيه الناقة بروكا عارضا، كان داخلا في النهي عن الصلاة في مبارك الإبل؛ فإن هذا المكان، ببناء المسجد فيه: زال عنه وصف أنه "مبرك" للإبل؛ وصار مسجدا، لا تبرك فيه الإبل.
ونظير ذلك: أنه ورد النهي عن الصلاة في المقبرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ) رواه أبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجة (745). وقال شيخ الإسلام رحمه الله : إسناده جيد . "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 332)، وصححه الألباني في "الإرواء" (1/320).
ومكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كان مقبرة للمشركين، فزالت صفة المقبرة عن المكان بإزالة هذه القبور وتسوية الأرض.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قال وهو يذكر قصة بناء المسجد النبوي : (فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ ) رواه البخاري (428)، ومسلم (524).
فهذا الحديث وأمثاله يبيّن أن الحكم الشرعي إذا علق بصفة، فإن الحكم يزول بزوال هذه الصفة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" إذا علق الشارع حكما بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالها. كالخمر، عُلِّق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خَلّا، زال الحكم، وكذلك وصف الفسق عُلِّق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف، زال الحكم الذي علق عليه، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء، تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها. والشريعة مبنية على هذه القاعدة " انتهى من "أعلام الموقعين" (5 / 528 - 529).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |