عنوان الفتوى : كيف يختار الله الأنبياء والرسل؟
كيف يختار الله أنبيائه؟ هل أختيروا لوجود صفات تؤهلهم لذلك، أم أن هذه الصفات صارت فيهم لكون الله اختارهم أنبياء، كمثال في عهد نبينا محمد، هل محمد صلى الله عليه وسلم كان مختارا أن يكون رسولا لله، وأن يكون على خلق معين، فهل لو اختير نبيا غيره سيكون بمثل خلقه أم لا؟ وهذا السؤال ينطبق على كل الأنبياء موسى وإبراهيم وغيرهم عليهم السلام.
الحمد لله.
إن الله سبحانه وتعالى يختار لرسالته من يعلم أنه أصلح لها من غيره، وهذا الذي تدل عليه نصوص الوحي، ومن ذلك:
قول الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/124.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"أي: ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته، بل لها محالٌّ مخصوصة لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله أعلم بهذه المحال منكم...، وكذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، أي: هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته، فيختصه بفضله ويمنُّ عليه ممن لا يشكره، فليس كل محلٍّ يصلح لشكره، واحتمال منَّته، والتخصيص بكرامته...
والله سبحانه لا يخصص شيئا، ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه، فهو الذي خلقه، ثم اختاره بعد خلقه، وربك يخلق ما يشاء ويختار" انتهى من "زاد المعاد" (1/ 53-54).
وقال الله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الحج/75.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
"أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، يكونون أزكى ذلك النوع، وأجمعه لصفات المجد، وأحقه بالاصطفاء، فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واصطفاهم ليس جاهلا بحقائق الأشياء، أو يعلم شيئا دون شيء، وإنما المصطفي لهم، السميع، البصير، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء، فاختياره إياهم، عن علم منه، أنهم أهل لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ). " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 546).
وقال تعالى، معلما عباده أن الاختيار والاصطفاء إنما مرده إلى الله، لا إلى أحد من خلقه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص/68
"أي: سبحانه المتفرد بالخلق، والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام عند قوله: (ويختار).
ثم نفى عنهم الاختيار الذي اقترحوه بإرادتهم، وأن ذلك ليس إليهم، بل إلى الخلاق العليم الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا من قال: (لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء، ويختار. ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة، كما ليس لهم الخلق.." انتهى من "شفاء العليل" (31).
وقد تكلم ابن القيم، رحمه الله عن ذلك المعنى أيضا بأوسع مما هنا في أول كتابه العظيم "زاد المعاد"، وقرره من جوه كثيرة، ثم قال:
" وإذا تأملت أحوال هذا الخلق، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره، فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله، فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه..."
" ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم، كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم، واصطفائهم، وقربهم من الله، وكم من ملك غيرهم في السماوات، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة. فجبريل: صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل: صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات، وإسرافيل: صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات، وأخرجتهم من قبورهم.
وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، واختياره الرسل منهم، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وابن حبان في " صحيحه "، واختياره أولي العزم منهم، وهم خمسة المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى) في قوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب: 7] [الأحزاب: 7] ، وقال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [الشورى: 13] [الشورى: 13] ، واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وآلهما وسلم.
ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم" انتهى. يراجع "زاد المعاد" (1/40-45).
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) رواه مسلم (2276).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة:... أن قريشا: أفضل العرب، وأن بني هاشم: أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم.
فهو: أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا.
وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور" انتهى من"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 419– 420).
وروى الإمام أحمد في "المسند" (6 / 84) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: (إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ)، وحسنه محققو المسند، وابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص 65).
وينظر حول خليل الله إبراهيم عليه السلام، ومقامه الجليل: جواب السؤال رقم: (122509).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري |
---|
كيف يختار الله الأنبياء والرسل؟ |