عنوان الفتوى : ما سبب اختلاف الصحابة في أسباب النزول؟
فيما يتعلّق بنزول الآية 85 من سورة الإسراء، أين نزلت؟ فقد قرأت أيضا أنّ هناك خلاف بين متى أُنزلت سورة الفاتحة، كيف يكون هذا ممكنا؟ ولماذا يعتقد بعض الصحابة أنها قد نزلت في مكة بينما يعتقد آخرون أنها نزلت في المدينة؟ أليس هذا متناقضًا؛ لأنّهم كانوا مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لذا ألا ينبغي أن يقولوا جميعا نفس الشيء؟ هذا يسبّب لي الكثير من الشكوك.
الحمد لله.
أولًا:
نزول القرآن لا يخرج عن قسمين:
الأول: أن لا يكون له سبب مباشر (نزول ابتدائي)، بل ينزل حسب حكمة الله ومراده من إنزال كتابه. وهو أكثر القرآن.
الثاني: أن يقع حدث، فينزل قرآن بشأنه، وهذا هو المراد بأسباب النزول، وفيه مؤلفات في حصر الآيات التي نزلت بسبب.
وهذا الحدث يشمل كل قول، أو فعل، أو سؤال وقع ممن عاصروا التنزيل، ونزل بسببه شيء من القرآن.
ويمكن أن نعرف سبب النزول بأنَّه: كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه.
ولأسباب النزول عدة فوائد، يمكننا أن نبرز بعضها في النقاط الآتية:
1- الإعانة على فهم المراد من الآية.
2- تصور أحوال من نزل فيهم القرآن.
3- إبراز حكم التشريع الباهرة.
4- الكشف عن الظرفين المكاني والزماني لنزول الآيات.
5- التأسي والاقتداء بما وقع للسلف من حوادث، في الصبر على المكاره، واحتمال الأقدار المؤلمة.
انظر: "الدليل إلى القرآن"(68).
ثانيًا:
من المهم أن نعرف أن ذكر أكثر من سبب للنزول عند تفسير الآية، لا يعني – بالضرورة - أنها – جميعا - السبب الحقيقي للنزول، لأن أهل التفسير ربما ذكروا ما يصلح تفسيرا للآية، وأطلقوا عليه أنه: سبب نزولها، أو قالوا: فيها نزلت؛ يعني: في هذا المعنى، وما يشبهه نزلت الآية المذكورة.
يقول الشيخ د. مساعد الطيار: " ذكر شيخ الإسلام تنبيهًا مهمًّا فيما يتعلَّق بأسباب النُّزول الصريحة وغير الصريحة، وأنها من باب المثال في التفسير ...
وهذا التنبيه مهمٌّ جدًّا؛ لأنك تعتبر أسباب النُّزول ـ سواء أكانت صريحة أم غير صريحة ـ التي تفسَّر بها الآية من باب المثال، ثمَّ تنظر في أسباب النُّزول غير الصريحة: صحة دخول ما ذكروه في معنى الآية؛ لأنَّ الأمر ـ في غير الصريحة ـ صار من باب التفسير بالرأي.
وإذا اعتبرت هذه الأسباب من باب المثال في التفسير، فإنه لن يُشكلَ عليك تعدُّدُها؛ كالأسباب المذكورة في سبب نزول أول سورة الأنفال، ولا تعدد من نزلت فيه الآية؛ كالأسباب المذكورة في قوله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر: 3].
وهذا يعني أنَّ ما يرد عن السلف في هذا الباب: إذا اعتبرته من هذه الجهة؛ فإنه يصح عندك بلا إشكال، وإن رُحْتَ تحقِّق على غير هذا السبيل، فإنك ستردُّ بعض تفسيراتهم المرتبطة بالنُّزول، بسبب عدم وضوح هذا السبيل من التفسير عندك، وحرصك على تعيين سبب واحدٍ من هذه الأسباب المذكورة"، انظر: "شرح مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير" (84-86).
ثالثًا:
أما أسباب اختلاف الصحابة في أسباب النزول، فكاختلافهم في الأحكام الشرعية، ومن ذلك:
1- أن الواحد من الصحابة لم يشهد كل شيء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يسمع الآية من النبي صلى الله عليه وسلم فيظن أنها نزلت في هذه الواقعة، ويكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها للاستشهاد لا لكونها نزلت في هذا الوقت.
2- قد يحكي أحد الصحابة قصة، ثم يتبعها بذكر آية، فيظن أنها من أسباب النزول، وليست منه.
3- وقد تتعدد الأسباب ويكون النازل آيةً أو آيات في موضع واحد.
انظر: "المحرر في أسباب النزول" (1/125).
رابعًا:
قال تعالى: (وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا) الإسراء/85.
ورد في سبب نزول الآية الكريمة:
1- عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟
فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ؟
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ.
فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) رواه البخاري (4721)، ومسلم (2794).
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " قَالَتْ قُرَيْشٌ لِليَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَنَزَلَتْ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أحمد(2309).
والصحيح: أن " سبب نزول الآية الكريمة حديث ابن مسعود لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج أكثر المفسرين بهن واللَّه أعلم".
" وإذا أردنا المقارنة بين الحديثين تبين ما يلي:
1- أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه صحيح الإسناد لا مطعن فيه بوجه من الوجوه؛ قد روي في أصح كتابين بعد كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وليس الأمر كذلك في حديث ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ فكيف إذا كان حديث ابن عبَّاسٍ قد اختلف في وصله وإرساله.
2 - أن ابن مسعود كان بصحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن القصة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لابن عبَّاسٍ، وقد قيل: ليس الشاهد كالغائب.
3 - أن حديث ابن مسعود تضمن تفصيلًا خلا منه حديث ابن عبَّاسٍ، وفيه: فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحى، والتفصيل دليل على الضبط والإتقان، والعلم التام بما حدث.
4- أن الآية لو نزلت بسبب حديث ابن عبَّاسٍ، فلماذا يعيد اليهود السؤال عن ذلك بالمدينة مرة ثانية، لا سيما أن اليهود قد علموا جواب اللَّه للمشركين في مكة، حسبما يدل عليه حديث ابن عبَّاسٍ، ولهذا قالوا بعد نزول الآية: أُوتينا علمًا كثيرًا، أُوتينا التوراة.
وبهذا يظهر ويتبين أن سبب نزول الآية الكريمة هو حديث ابن مسعود لما تقدم.
"المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة" (2/ 672-673).
خامسًا :
أما سورة الفاتحة فلم تنزل مرتين، وإنما نزلت بمكة، ونزل مزيد من ثوابها في المدينة، فظن بعض العلماء أنها نزلت مرتين، وليس كذلك.
يقول الدكتور خالد المزيني : " الفاتحة، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى نزولها مرتين، ظنا منهم أنها نزلت مرة في مكة، ومرة في المدينة.
وقد استُدل على نزولها بمكة بأن الله ذكرها في سورة الحجر بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) .
ومما يدل على أن المراد بالآية هنا سورة الفاتحة : ما روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أُصلي في المسجد، فدعاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أُصلي فقال: (ألم يقل اللَّه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
ثم قال لي: (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد).
ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: (الحمد للَّه رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيتُه).
وجه الدلالة من الحديث على أنها مكية : أن اللَّه تعالى ذكر إيتاءها رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سورة الحجر، وهذه السورة مكية كلها.
قال ابن عاشور: (حُكي الاتفاق عليها).
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا بد أن تكون الفاتحة قد نزلت قبل سورة الحجر، وبناءً عليه لا بد أيضًا أن يكون نزولها في مكة.
أما من استدل على نزولها بالمدينة : فاحتج بما روى مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أُوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة؛ لن تقرا بحرف منهما إلا أُعطيته".
وجه الدلالة من الحديث على أنها مدنية: أنها قُرِنت بنزول الملك بها مع خواتيم سورة البقرة، مع أنها مدنية.
والراجح - واللَّه أعلم - أنه لا معارضة بين الحديثين، وأن السورة إنما أُنزلت في مكة فقط.
أما حديث ابن عبَّاسٍ: فلا يدل على أنها مدنية، بل غاية الأمر أن الحديث يدل على فضلها.
ولهذا قال القرطبي: (إن جبريل - عليه السلام - نزل بها في مكة، ونزل هذا الملك بفضلها وثوابها في المدينة، فجبريل هو أمين الوحي، وقد قال اللَّه تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). وهذا يقتضي نزوله بجميع القرآن دون استثناء)"
انتهى من "المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة" (1/ 147-148).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |