عنوان الفتوى : الرد على دعوى عدم الترابط بين آيات السورة الواحدة من القرآن
لماذا آيات السورة الواحدة تتكلم عن مواضيع متعددة، ولا يوجد ترابط بين الآيات؟ وللعلم أنا مؤمنة، مع احترامي وتقديري لكم. أريد جوابا مقنعا مستندا إلى نصوص.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصحيح أن السورة الواحدة من القرآن تتناول قضايا متعددة ومسائل متنوعة، ولكن دعوى عدم الترابط بين الآيات غير مسلَّمة! وموضوع التناسب بين الآيات أحد فروع علوم القرآن التي أفردها بعض أهل العلم بالتأليف، وهي محل خلاف كبير بينهم:
* فمهم من يقول بعدم وجود المناسبة بالفعل، باعتبار أن القرآن ما زال مفرقاً ينزل حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن قبضه الله عز وجل، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، كما ذهب إليه الشوكاني في تفسيره (فتح القدير).
* ومنهم من يقول بوقوع المناسبة، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط؛ لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، كما قال العز بن عبد السلام، ونقل عنه السيوطي في كتاب (الإتقان في علوم القرآن).
* ومنهم من يقول بحصول المناسبة بين كل آيات القرآن وسوره، وأن هذا مظهر من مظاهر الإعجاز، ولكنه خفي دقيق، لا يدركه كل أحد في كل وقت، بل يظهر لأناس ما يخفى على آخرين والعكس، بحسب ما يفتح الله به عليهم، قال السيوطي في الإتقان: قال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المفرقة! وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له. انتهى. وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه، أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل: والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر. اهـ.
* ومنهم من ذهب إلى أبعد من القول بالمناسبة، فأثبت أن للقرآن نظاما عاما وخاصا، في السورة الواحدة وبين سوره أيضا، وما المناسبات إلا جزء من هذا النظام، وقد ألف في ذلك العلامة عبد الحميد الفراهي كتاب (دلائل النظام) ومما قال فيه: مرادنا بالنظام أن تكون السورة كلاماً واحداً ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد ما، كما قدمنا في نظم الآيات بعضها مع بعض، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة فكذلك ربما تكون السور معترضة.
وعلى هذا الأصل ترى القرآن كله كلاماً واحداً ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر، فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء. اهـ.
وممن أجاد وأفاد وأبدع في عرض هذه النظرية من المعاصرين الأستاذ الدكتور/ محمد عبد الله دراز، في كتابه الفذ (النبأ العظيم). وبإمكان الأخت السائلة أن ترجع إليه لأهمية وفائدته العظيمة في هذا الباب، فقد ذكر بعض خصائص القرآن البيانية، ورتبها على أربع مراتب:
1- القرآن في قطعة قطعة منه.
2- القرآن في سورة سورة منه.
3- القرآن فيما بين بعض السور وبعض.
4- القرآن في جملته.
ولو رجعت السائلة للخصيصة الثانية من هذه الخصائص الأربع، لوجدت فيه ما يثلج الصدر، ولعلمت أن تعدد موضوعات السورة الواحدة مع نظمها في مساق واحد، بصياغة فريدة بديعة، متنوعة الأساليب من غير تنافر، ومتعددة الأغراض من غير اضطراب هو أحد أوجه الإعجاز القرآني.
ونكتفي بإحالة السائلة على هذا الكتاب المهم، لأن موضوع السؤال لا يحسن اختصاره، بل ينبغي الرجوع فيه لكتاب متخصص مثل كتاب (النبأ العظيم).
والله أعلم.