عنوان الفتوى : ما حكم القول: لم يخلق الله شيئا أقوى من الدعاء، جعله أقوى حتى مِن أقداره؟
ما حكم مقولة: لم يخلق الله شيئاً أقوى من الدعاء، جعله أقوى حتى مِن أقداره؟
الحمد لله.
لا شك أن الدعاء قد جعله الله تعالى من أنفع الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار.
عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ رواه الترمذي (2139)، وقال: "وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ ".
وللأهمية يحسن مراجعة جواب السؤال رقم:(264354).
لكن القول: (بأن الدعاء هو أقوى المخلوقات جعله الله أقوى من أقداره)، هو قول ينبغي على المسلم أن يتجنبه لأمرين:
الأمر الأول:
لأنه من المشتبهات، وعلى المسلم أن يتكلم في الدين بما لا يثير شبهة ولا يؤصل بدعة.
فإطلاق أن الدعاء مخلوق قد يحتوي على باطل؛ لأن لفظ "الدعاء" يشمل فعل العبد من التوجه إلى الله تعالى وسؤاله، ولا شك أن فعل العبد مخلوق؛ ويشمل لفظ "الدعاء" أيضا ما يحتويه الدعاء من أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا ليس بمخلوق، وهذا شبيه بمسألة "هل الإيمان مخلوق؟".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" نشأ بين أهل السنة والحديث النزاع في " مسألتي: القرآن والإيمان " بسبب ألفاظ مجملة، ومعاني متشابهة، وطائفة من أهل العلم والسنة: كالبخاري صاحب الصحيح ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق؛ وليس مرادهم شيئا من صفات الله. وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد.
وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أفعال العباد مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة " انتهى من"مجموع الفتاوى"(7/658).
وقال رحمه الله تعالى:
" وإذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد " بالإيمان"؟ أتريد به شيئا من صفات الله وكلامه، كقوله (لا إله إلا الله) و" إيمانه " الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق.
أو تريد شيئا من أفعال العباد وصفاتهم، فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصور ما يقول.
فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء. وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات، إذا فصل فيها الخطاب، ظهر الخطأ من الصواب " انتهى من"مجموع الفتاوى"(7/664).
الأمر الثاني:
قوله: "جعله أقوى حتى مِن أقداره "، فإنه يوهم أن دعاء العبد خارج عن تقدير الله تعالى، والحق أن دعاء العبد هو من الأمور التي يقدرها الله تعالى؛ فلا يمكن أن يكون دعاء العبد خارج تقديره سبحانه وتعالى.
فدفع الدعاء لما قدره الله تعالى، هو من باب دفع القدر بالقدر.
ولا مانع أن يكون بعض ما قدر الله من الأسباب، أقوى من بعضها الآخر، كما أن الدواء يكون أقوى من المرض، وكلاهما من أقدار الله على العبد، أو يكون العكس؛ وكل ذلك بتقدير الله وخلقه.
وأما إن كان يتوهم أن ذلك يجعل الدعاء، الذي هو فعله العبد، أقوى من القدر، الذي هو تقدير الله وفعله، فهذا باطل، لا يخفى بطلانه على عاقل، فضلا عن مسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، وقدره على عباده، وعظيم سلطانه. فإن قدر الله غالب على عباده، لا يخرج شيء عنه؛ قال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)القمر/49-53
فعلى المسلم أن يتحدث بما هو بين واضح لا لبس فيه؛ كأن يقول بأن الدعاء من أنفع الأسباب التي يقدرها الله تعالى للعبد ونحو هذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى، وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، فهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى " انتهى من"مجموع الفتاوى"(1/131).
والله أعلم.