عنوان الفتوى : يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا
قرأت فتوى لعلماء اللجنة الدائمة تجيز منح جوائز نقدية لحفز همم الطلاب على حفظ القرآن، وليس هذا سؤالي؛ لأني قرأت عدة فتاوى تجيز هذا الأمر، ولكنهم قالوا بعد ذلك جملة عندي فيها إشكال، حيث قالوا: (... ويوجه الطلاب إلى إخلاص النية لله لحفظ القرآن، والجوائز تأتي تبعًا، ولا تكون هي المقصود من الحفظ)، وعندي عدة أسئلة: ١- هل توجد قاعدة فقهية ينبني عليها هذا الأمر، أقصد جواز أن يكون للعبد قصد رئيس أكبر، وقصد تابع له أصغر؟ ٢- ألا ينبغي أن يراد بالعمل وجه الله فقط، دون أي مشاركة -ولو يسيرة- لنية أخرى؟ ٣- هذه الجملة ( ... ويوجه الطلاب ... ) مفهومة إن كنت مثلًا أصلي وأصوم بنفس القدر، قبل وبعد علمي بالاكتشافات الطبية الحديثة لفوائد الصلاة والصوم مثلًا، حيث إنني أصلي وأصوم بقصد إرضاء الله فقط، والفوائد الطبية تأتي تبعًا رغمًا عني، دون أدنى مزيد عبادة مني لتحصيلها، لكن في مسابقة القرآن الأمر يختلف، حيث إنني في الأصل لي ورد مراجعة معين لمحفوظي، لكن إن دخلت مسابقة، فسأزيد من مراجعتي وإتقاني لمحفوظي سعيًا وراء المال، وليس لله؛ لأن هذه الزيادة في المراجعة لو كانت لله لفعلتها دون مال. ولاحظوا أن المال هنا لم يأت تبعًا رغمًا عني، بل قصدته بزيادة مراجعتي، وحتى لو ترتب على زيادة مراجعتي أنني أصير أكثر إتقانًا واستفادة من كلام الله، إلا أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وبعد هذا الكلام فإن سؤالي الثالث هو: هل نستطيع أن ننوي بقلوبنا حقًّا أن مال المسابقة يأتينا تبعًا مثلما تأتينا فوائد الصوم والصلاة؟ ٤- هل يختلف الحكم بين رجلين يزيدان في عبادتهما لتحصيل أمر دنيوي، مثل زيادة الصلاة والصيام لزيادة صحة البدن، ومثل زيادة مراجعة القرآن لتحصيل مال المسابقة، لكن أحدهما يريد الأمر الدنيوي في حد ذاته، يريد أن ينعم بجسد صحيح، ومال ينفقه لشراء ملابس جديدة مثلًا، بينما الآخر يريد الأمر الدنيوي لأجل الآخرة، يريد جسمًا يقوى به على العمل ليعف نفسه، ومالًا ليسد به دينًا عليه، خوفًا من أن يحبس عن الجنة بسببه؟ ٥- أخيرًا: فإنني قرأت فتاوى تجيز أمر المسابقة بعوض، ولا أذكر أني قرأت هذا الضابط (...ويوجه الطلاب إلى...) إلا في فتوى اللجنة الدائمة، فهل يجب الالتزام به؟ بصيغة أخرى: إذا دخل المرء مسابقة القرآن، وغرضه الرئيس هو الجائزة النقدية فقط، فما حكم عمله هذا؟ وما حكم المال الذي أخذه جائزة؟ أرجو أن توضحوا لي في إجابتكم لأسئلتي الخمسة أن هذا الجزء من الإجابة يخص
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فسنجيبك عن النقطة الأولى الواردة في سؤلك، وهي: هل توجد قاعدة فقهية "ينبني عليها هذا الأمر، أقصد جواز أن يكون للعبد قصد رئيس أكبر، وقصد تابع له أصغر، والجواب أن هنالك قاعدة تقتضي ذلك، وهي قولهم: "يجوز تبعًا، ما لا يجوز استقلالًا، ويغتفر في الشيء ضمنًا، ما لا يغتفر فيه قصدًا، قال السيوطي في الأشباه والنظائر: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها، وقريب منها: يغتفر في الشيء ضمنًا، ما لا يغتفر فيه قصدًا، وربما يقال: يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل. اهـ.
وفي أصول الكرخي -رحمه الله- كما ذكر البركتي في قواعد الفقه: الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعًا، وحكمًا، وإن كان يبطل قصدًا. اهـ.
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر أيضًا: القاعدة الرابعة: التابع تابع. يدخل في هذه العبارة قواعد: الأولى: أنه لا يفرد بالحكم. اهـ.
وفي شرح القواعد الفقهية للزرقا: التابع لا يفرد بالحكم، ما لم يصر مقصودًا. اهـ.
ومما يستدل به لهذه القاعدة قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، يعني أن تجارة المسلمين في الحج، لا تخل بالإخلاص؛ لأَنَّهم لا يقصدونها بذاتها، وإنَّما يقصدون الحج أصلًا، والتجارة منفعة تابعة، ذكر ابن كثير في تفسيره: عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة، وإن أناسًا يزعمون أنه لا حج لنا، فهل ترى لنا حجًّا؟ قال: ألستم تحرمون، وتطوفون بالبيت، وتقفون المناسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فأنتم حجاج...
ويستدل لها بغير ذلك، مما بينه العلماء في كتبهم.
وبقية الأسئلة يطرح كل سؤال منها في رسالة مستقلة، مع أن أكثرها متشعب عن المسألة التي أجيب عنها، وما ذكر يكفي للجواب عنها.
والله أعلم.