عنوان الفتوى : التوبة المقبولة وموانعها
أنا شاب أبلغ من العمر ٣٨ سنة. ابتليت بمواقع الدردشة والتعارف. تعرفت على الكثير من الفتيات، وقد سببت واحدة، وأوقعت واحدة في الحب والغرام، والوعد بالزواج وما إلى ذلك. المهم ارتكبت ما لا يحصى ولا يعد من فظائع الذنوب، ربما لو وزعت على أهل الأرض لكفتهم. وأصدقك القول أني لم أترك شيئا لفرعون وهامان وجنودهما، وأشعر أن ذنوبي بمقدار الجبال الرواسي التي قد تصل إلى عنان السماء. ولم أترك منكرا أو كبيرة من الكبائر إلا وأتيتها، من ترك للصلوات، وإدمان للفواحش في المواقع الإباحية، والتدخين. قد أحتقر نفسي، وأستغفر وأتوب في بعض الأحيان، وأغتسل، وأغلق حساباتي في هذه المواقع، وأسعى للحفاظ على الصلوات، وقد يدوم الحال معي أحيانا أسبوعا من الزمن، ولكن أرجع لما كنت عليه. المهم كل من يعرفني وألاقيه في المسجد أبدو له ذا صلاح، وأنا عكس ذلك تماما، وأشعر أني رأس النفاق وسنامه. المهم من خلال إدماني هذه المواقع، تعرفت على فتاة حسبتني ذا دين وصلاح بحديثي معها، وتواعدنا على الزواج، والتقينا مرة عل أساس التعارف أكثر. لكن سرعان ما تبدل رأيي، وأصبحت أتحاشاها عندما دعتني إلى مفاتحة أبيها في الموضوع، في نفس الوقت كنت أحادث فتيات أخريات والموضوع هو نفسه الزواج وما إلى ذلك، دون إيفاء مني بوعدي لأي منهن. المهم كانت هذه الفتاة ذات يوم قد نصبت لي كمينا عبر مواقع التواصل، وأوقعتني شر وقعة. فاعتذرت بكل الأعذار، لكن ذلك لم يجد نفعا، بل دعت علي بأني سوف أدفع ثمن أفعالي عاجلا أو آجلا؛ فثارت ثائرتي، وجن جنوني وأصبحت أكيل لها كل أنواع السب والشتم بأفظع الألفاظ. ومرت الأيام وأنا لم أرجع عن صنيعي، وتزوجت الفتاة ورحلت، لكن مضايقاتي لها عبر وسائل التواصل بالشتم والسب والقذف لم تنته. احتقرت نفسي، وجننت لفظاعة ما أنا بصدد فعله. قد أبكي أحيانا، وأشعر أن بي مسا من الجنون، أستغفر وأتوب، وأحاول جاهدا أن أرجع إلى الطريق المستقيم، لكن شيئا من ذلك لم يكن، أعود لنوباتي العصبية والتدخين، وإدمان المواقع الإباحية، وتضييع الصلوات، لم أعد أدري كم صلاة ضيعت، ولكن ضاع منها الكثير الكثير. أريد أن أتوب، وألتمس طريق النجاة، وأتحلل من ظلمي لهذه الفتاة وغيرها من الفتيات الأخريات. تقطعت بي السبل حتى أقول أحيانا إن الله سيحشرني لا محالة مع فرعون وهامان وجنودهما. أنا أموت في اليوم مئات المرات، خوفا وحرقة على ما فرطت فيه في جنب الله، والظلم الذي ارتكبه. قررت يوما أن أذهب إلى طبيب نفسي، لعلي أجد مخرجا لأزمتي. وبالفعل ذهبت، وحضرت حصة واحدة، لكني لم أعد ثانية. أنا خائف من عذاب الله الشديد، وأحس أني ضيعت سنين عمري ظلما لنفسي ولهذه الفتاة وغيرها. فهل لي من توبة؟ هل الجهاد في سبيل الله يكفر عني سيئاتي؟ هل بر والدي يكفر عني ذلك؟ لم أعد أرغب في شيء من ملذات الدنيا، أريد فقط أن أنجو بنفسي، وأتوب إلى الله عساه يغفر لي ويعفو عني. أتألم كثيرا، وأعاني، ولا أنام الليل من شدة شعوري بعظم ذنوبي. أرجوكم أرشدوني يا فضيلة الشيخ.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعرفتك بخطأ هذا السلوك الذي سلكته، وعظم الفظائع التي أتيتها، هو بداية السير على الطريق الصحيح، فالمؤمن يخاف من ذنوبه بخلاف المنافق، فلا يبالي بالذنوب وإن عظمت.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا.
والمبادرة إلى التوبة النصوح واجبة، وهي التوبة التي استجمعت شرائط الصحة، وسبق بيانها في الفتوى رقم: 29785.
فإن تبت على هذا الوجه الصحيح، وإن ضعفت نفسك وعدت للذنب مرة أخرى، فأتبع ذلك بتوبة.... وهكذا، ولا تيأس أبدا أو تقنط من رحمة الله تعالى؛ فقد قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}.
روى مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذى تقول وتدعو لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {الفرقان:68}، ونزل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ {الزمر:53}.
ومما يمنع من قبول التوبة أن يتوب الإنسان وفي نيته أن يعود إلى ذلك الذنب، ولو أقلع وندم وعزم على عدم العودة إليه، قبلت توبته. روى البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، عن أبي هريرة ـرضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئت.
قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة، بل ألفاً وأكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته...... اهـ.
ولست ظالما لأي فتاة طاوعتك على إقامة علاقة عاطفية معها، فهي التي جنت على نفسها بذلك، ولكن من ظلمتها بسب ونحوه، يجب عليك التحلل منها، ما لم تخش من ذلك مفسدة أعظم، فيكفيك - حينئذ- أن تكثر من الدعاء لها بخير، عسى الله عز وجل يرضيها عنك، وانظر الفتوى رقم: 223216.
وننبهك إلى أن من أعظم التفريط تضييع الصلاة عن وقتها بغير عذر، فتجب التوبة وقضاء ما فات، وإذا نسيت العدد، فاجتهد في التقدير، واقض ما يغلب على الظن معه براءة ذمتك، وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 97471.
ونوصيك في الختام بالحرص على ما يعينك على الثبات على الحق من الوسائل، ويبعد عنك شر شياطين الإنس والجن، ويمكنك الاستفادة من الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1208 - 10800 - 12928.
نسأل الله تعالى لنا ولك العافية من كل سوء وبلاء.
والله أعلم.