عنوان الفتوى : شبهة حول صفة القدمين لله تعالى وجوابها.
في مقطع لأحد الأشخاص على اليوتيوب يشكل على من أثبت صفة القدمين لله تعالى، ويورد كلاما للإمام ابن عثيمين يقول : "إن النملة لها قدم، والفيل له قدم، والنعامة لها قدم، وأنت ترى التفاوت بين المخلوقين في صفة القدم، فكيف التفاوت بين قدم الله تعالى وأقدام المخلوقات"، ثم يقول بعد هذا النقل أنه وهو يحاول أن يثبت التفاوت بين أقدام المخلوقين وبين قدم الله سبحانه وتعالى أثبت أنها قدم من حيث إنها جمعيها تحمل شيئا فوقها، ونفى ذلك عن الله تعالى، فما الرد؟
الحمد لله.
أولا:
يؤمن أهل السنة والجماعة أن لله تعالى قدمين، بلا كيف.
ودليل ذلك : ما روى البخاري (6661)، ومسلم (2848) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ.وروى البخاري (4850)، ومسلم (2847) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ؟ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي . وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي ، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي.
وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا ؛ فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ ، فَتَقُولُ : قَطْ قَطْ ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا . وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا
.
ولفظ مسلم: فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ، فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا.
فهذا يدل على إثبات القدم أو الرجل لله تعالى .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : " الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره " رواه ابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 248 رقم : 154)، وابن أبي شيبة في "العرش" (61)، والدارمي في "الرد على المريسي"، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة"، والحاكم في "المستدرك" (2/ 282)، وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "مختصر العلو" ص 102، وأحمد شاكر في "عمدة التفسير" (2/ 163).
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : " الكرسي موضع القدمين، وله أطيطٌ كأطيطِ الرَّحْل " رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" ، وابن أبي شيبة في "العرش" (60) ، وابن جرير ، والبيهقي، وغيرهم ، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (8/ 47) والألباني في "مختصر العلو" ص 123-124.
وهذان الأثران يدلان على إثبات القدمين لله تعالى ، وعلى هذا درج أهل السنة .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(166843)، ورقم:(147247).
ثانيا:
القول في الصفات كالقول في الذات، فمن آمن أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فليؤمن أن صفاته ليس كمثلها شيء، فصفة كل شيء بحسبه، وهذا معنى قول أهل السنة: إن الاشتراك في الاسم لا يعني التشبيه، حتى في المخلوقات، فليست رجل النملة كرجل الفيل مع اشتراكهما في الاسم، وليسا كرجل الكرسي من خشب أو حديد، فالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
وللذهبي رحمه الله كلمة جميلة في هذا المعنى. قال رحمه الله: "ولم قلتم أيضاً: إن اليد إنما تكون حقيقةً هذه الجارحة، بل إنما اليد لفظ مشترك، وهي بحسب ما تضاف إليه، ومن جنس ما توصف بها، فإن كان الموصوف بها حيواناً كانت جارحة، وإن كان تمثالاً من صفراء وحجر كانت صفراء وحجر، وإن كان تمثالاً عَرضاً في حائط كانت عرضاً، وإن كان ليس كمثله شيء، وليس بجسم؛ كانت ليس كمثلها شيء، وليست بجسم.
فإذا قلت مثلاً: عندي صنم من نحاس له يدان ورجلان، هل بقي يفهم أن يديه ورجليه جوارح لحم ودم؟!
وإذا قلت: عندي نحت من خشب له رجلان، هل يسبق إلى الذهن أنهما جارحتان أيضاً؟!
وإذا قلت: ما أجسر يد زيد على الكتابة! هل الظاهر من هذا الكلام أن يديه غير جارحتين؟
أم هل إذا قلت: إن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وليس بجسم ولا عرض، وخلق آدم بيده؛ هل يفهم ذو لب أن يديه الكريمتين جسم أو عرض أو جارحة أو شبهها شيء؟!
وكذلك إذا قلت: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وإن الله ليس بأعور، أو حتى يضع رب العزة فيها قدمه، يعني جهنم، أو عجب ربنا من شاب ليست له صبوة؛ فكما أنه سبحانه وتعالى لا يُتصور في الذهن، ولا يمثل في العقل، فكذلك يداه وسائر صفاته لا تصور في الذهن، ولا تمثل في العقل...
وإذا كان كذلك، فصفة كل شيء بحسبه، فإنْ سبق إلى ذهننا كيفية الموصوف، وتصورناه؛ تصورنا صفاته، وإن لم يسبق إلى ذهننا، ولم نتصوره؛ لم يسبق إلى ذهننا فننفيه، ولم نتصوره، هذا لا شك فيه.
فإن قيل: قد صار العرف أن اليد هي الجارحة المعهودة.
قلنا: وكذلك قد صار العرف أن العلم والسمع والبصر أعراضٌ قائمةٌ بأجسام، فما الفرق؟" انتهى من "إثبات اليد لله سبحانه"، للذهبي، ص42-44
وأما القول بأن الرِّجل تحمل ما فوقها: فهذا من التكييف الذي هو سبب ضلال المعطلة، يتصورون، ويكيفون، ثم ينفون، وأما أهل السنة فلا يقعون في هذا، ولا ينطقون في حق الله تعالى بما لا يليق، ويمنعون التوهم والتخيل لذاته سبحانه.
قال الطحاوي رحمه الله: " لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام" انتهى من "عقيدة الطحاوي" رحمه الله، ص 8.
وقال ابن قدامة رحمه الله: " لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] " انتهى من "لمعة الاعتقاد"، ص 5.
والنصيحة لك: أن تأخذ العلم عن أهل السنة، وألا تصغي لأهل البدع؛ فربما قذف أحدهم الزيغ في قلبك، فتهلك.
قال أبو قلابة رحمه الله: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم ".
وقال محمد بن النضر الحارثي: " من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم أنه صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه ".
وقال عبد الرزاق الصنعاني الإمام: قال: قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: " إني أرى المعتزلة عندكم كثيرا؟
قلت: نعم، وهم يزعمون أنك منهم.
قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك؟ قلت: لا. قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، وإن الدين ليس لمن غلب.
قال الذهبي رحمه الله وساق قول سفيان: "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم ، خرج من عصمة الله ووكل إلى نفسه. وعنه: من يسمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه لا يلقيها في قلوبه".
ثم قال الذهبي: " قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة " انتهى من "سير أعلام النبلاء (7/261).
وهؤلاء المنحرفون ما أغناهم نصوص الكتاب ولا السنة ، ولا آثار السلف، وأعرضوا عن ذلك كله، فلا عجب في تشنيعهم على معاصريهم.
فامض في تحصيل العلم، ولا تلتفت، واعلم أن السني أسعد الناس بالكتاب والسنة، وهما على قلبه أحلى من العسل المصفى، والمبتدع يتكلف التأويل والتحريف، ويأتي بما يضحك الثكلى، كما فعلوا في صفة القدم.
والله أعلم.