عنوان الفتوى : يسأل عن معنى حديث : ( لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ ..)
صديقي ، وهو مسلم أيضا ، وهو بريطاني باكستاني ، يدعى بأنه سمع عالما يقتبس مباشرة من القرآن أن هيئة الله - سبحانه وتعالى - مذكورة في قصة تحكي عن كيف أن الله سيطأ برجله على أهل النار ، وقد اختلفت معه قائلا له بأنه يحرم ربط الله بأي شكل حسي أو روحي خاص بالبشر أو الحيوانات أو أي جانب آخر من جوانب الحياة خلقه الله ، فرد بالقول بأنه يعتقد بأن لله رجلا ، كما ذكر في القرآن ، وبأنها مستخدمة في وصف عذاب النار ، فاقترحت بأنه يمكن ألا يكون معنى حرفي لله أو هيئته - والله أعلم - ، ويمكن أن يكون مجرد مصطلح مجازي تم استخدامه لوصف عذاب جهنم وغضب الله على أهلها ، فأجاب صديقي بأني آثم بقولي هذا ، وبأن كل ما ذكر في القرآن من قصص وتعاليم يجب أن يؤخذ حرفياً ، وليس هناك شيء مجازي ؟
الحمد لله
أولا :
يجب الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ، من غير تشبيه ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل .
والتشبيه : أن يقول لله يد كأيدينا ، أو سمع كأسماعنا ، أو علم كعلمنا .
والتعطيل : أن ينفي الصفة ، أو يؤولها ، ويدعي أنها على سبيل المجاز وليست حقيقة ، كمن يقول: اليد بمعنى القدرة ، والاستواء على العرش : بمعنى الاستيلاء .
وقد اشتهر هذا التعطيل ، أو التأويل المجازي في باب الصفات ، عن بعض الفرق المبتدعة ، كالجهمية والمعتزلة ومن تبعهم .
والتكييف في باب الصفات : أن يقول : إن كيفية صفة الله كذا ، وكذا .
وهذا هو معنى " الهيئة " التي ذكرها السائل ، فنحن لا نقضي على شيء من صفات الله بأن كيفيتها كذا وكذا ، أو هيئتها كذا وكذا ، بل علم الكيفية والهيئة مرفوع ، لم يبين لنا ، ولم يدركه العباد بعقولهم ؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله في صفة " الاستواء " :
" مَالك الإِمَام الاسْتوَاء مَعْلُوم يَعْنِي فِي اللُّغَة والكيف مَجْهُول وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة ". انتهى من "العلو" للذهبي (167) .
وينظر جواب السؤال رقم: (178915).
ثانيا :
من صفات الله الثابتة : الرِّجل والقَدم .
ودليل ذلك : ما روى البخاري (6661)، ومسلم (2848) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ).
وروى البخاري (4850)، ومسلم (2847) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتْ النَّارُ : أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ : مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ ؟ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ : أَنْتِ رَحْمَتِي ، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ : إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي ، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا ، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ ، فَتَقُولُ : قَطْ قَطْ ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا ) .
فهذا يدل على إثبات صفة " القدم" ، أو " الرجل "، لله تعالى ، على الوجه اللائق بكماله وجماله وجلاله .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره " رواه ابن خزيمة في "التوحيد" (1/ 248 رقم : 154) ، وابن أبي شيبة في "العرش" (61) ، والدارمي في "الرد على المريسي" ، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" ، والحاكم في "المستدرك" (2/ 282) ، وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في "مختصر العلو" ص 102 ، وأحمد شاكر في "عمدة التفسير" (2/ 163).
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : " الكرسي موضع القدمين، وله أطيطٌ كأطيطِ الرَّحْل " رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" ، وابن أبي شيبة في "العرش" (60) ، وابن جرير ، والبيهقي، وغيرهم ، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (8/ 47) والألباني في "مختصر العلو" ص 123-124
ومن كلام علماء السلف ، وأئمة السنة في إثبات القدمين :
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في "كتاب التوحيد" (2/ 202) : " باب ذكر إثبات الرِّجل لله عز وجل ، وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية ، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ".
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله : " هذه الأحاديث التي يقول فيها : ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره ، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك قدمه فيها ، والكرسي موضع القدمين ، وهذه الأحاديث في الرواية هي عندنا حق ، حملها الثقات بعضهم عن بعض ، غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها : لا نفسرها ، وما أدركنا أحدا يفسرها " رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ( 2/ 198)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 149).
وينظر جواب السؤال رقم: (166843) ورقم: (136566).
ثالثا :
تأول المعطلة القدم والرجل بأن المراد : أنه يضع طائفة من عباده ، أو من يقدّمهم إلى النار ، أو قدم إبليس لقوله : حتى يضع الجبار.. الخ .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح الواسطية" ( 2/ 452) : " وخالف الأشاعرة
وأهل التحريف أهل السنة ، فقالوا : " يضع عليها رجله " يعني : طائفة من عباده
مستحقين للدخول ؛
والرِّجل تأتي بمعنى الطائفة ، كما في حديث أيوب عليه الصلاة والسلام : ( أرسل الله
إليه رِجل جراد ) ، يعني طائفة من جراد .
وهذا غير صحيح ؛ لأن اللفظ " عليها " يمنع ذلك .
وأيضا : لا يمكن أن يضيف الله عز وجل أهل النار إلى نفسه ؛ لأن إضافة الشيء إلى
الله تكريم وتشريف .
قالوا في القدم : قدم بمعنى مقدّم ، أي يضع الله تعالى عليها مقدَّمه ، أي من
يقدمهم إلى النار .
فنقول : أهل النار لا يقدمهم الباري عز وجل ، ولكنهم ( يُدعّون إلى نار جهنم دعا )
ويلقون فيها إلقاء ... " انتهى .
والحاصل :
أنه يجب الإيمان بما ورد في النصوص من أسماء الله وصفاته ، كما آمن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان ، من غير تشبيه ولا تكييف ، ومن غير تأويل ولا تعطيل .
ولو كانت هذه الصفات على سبيل المجاز : لبين صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ لأنه المبيِّن عن ربه سبحانه تعالى ، وقد بيّن لأمته ما تحتاج إليه في أمر دينها ، وتركها على المحجة البيضاء ، فلو كانت هذه الصفات تفيد نقصا ، أو يحرم إجراؤها على ظاهرها ، أو يجب تأويلها ، لما تكلم بها صلى الله عليه وسلم ، أو لقرن كلامه بما يبين أنها على غير حقيقتها .
وينظر جواب السؤال رقم: (130962)، ورقم: (151794).
والله أعلم .