عنوان الفتوى : التفسير الصحيح لإحاطة الله تعالى بخلقه
هل إحاطة الله بالعالم بذاته صفة فعل إن شاء لم يفعلها وإن شاء فعلها؟ أم صفة ذات؟ فهناك شيخ قال لي إنها صفة لا يجوز أن تتغير؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإحاطة الله تعالى بخلقه صفة ذات لا تتعلق بالمشيئة، بمعنى أنه لم يزل سبحانه بكل شيء محيط، ولكن لا يراد بإثباتها إثبات إحاطة ذات الله تعالى بخلقه كإحاطة الأفلاك، وإنما يراد بها إحاطة علم الله وقدرته وعظمته بخلقه، والعلم والقدرة والعظمة صفات ذات لا صفات فعل! قال البيهقي في كتاب الاعتقاد:المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات، والقدرة له صفة قائمة بذاته، والعلم له صفة قائمة بذاته. اهـ.
وقال الطحاوي في عقيدته: محيط بكل شيء وفوقه ـ قال ابن أبي العز في شرحه: ليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم ـ ومن المعلوم ـ ولله المثل الأعلى ـ أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف، فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن. اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك في شرحه: الله تعالى وصف نفسه بالإحاطة في آيات كثيرة، كقوله تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ {البروج: 20} وفي الآية الأخرى: وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {الأنفال: 47} وقال سبحانه وتعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَاً {الطلاق: 12} هذا الذي جاء في القرآن الإحاطة العلمية، ومعناها: أنه لا يخرج عن علمه تعالى شيء، والشيء المحيط بغيره هو الذي يكون محيط به من جميع الجوانب، فعلم الله محيط بكل شيء، فهو تعالى محيط بكل شيء علما وقدرة.. أما الإحاطة الذاتية بمعنى أنها كإحاطة الفلك بما فيه فلا، فالله تعالى فوق كل شيء، وليس في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. اهـ.
وتفسير إحاطة الله بخلقه على هذا النحو، هو الذي درج عليه أهل العلم، قال الخطابي في شأن الدعاء، وقوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة: المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. اهـ.
وقال الزجاج في اشتقاق أسماء الله: المحيط في اللغة اسم الفاعل من قولهم: أحاط فلان بالشيء فهو محيط به، إذا استولى عليه، وضم جميع أقطاره ونواحيه، حتى لا يمكن التخلص منه، ولا فوته، فالله عز وجل محيط بالأشياء كلها لأنها تحت قدرته، لا يمكن شيئًا منها الخروج عن إرادته فيه، ولا يمتنع عليه منها شيء، وقد قال الله تعالى عز وجل أحاط بكل شيء علمًا ـ أي علم كل شيء على حقيقته بجميع صفاته، فلم يخرج شيء منها عن علمه، وقد قال الله تعالى: والله محيط بالكافرين ـ قال المفسرون: تأويله: مهلك الكافرين، وحقيقته أنهم لا يعجزونه ولا يفوتونه، فهو محيط بهم، وإذا كانوا كذلك فقد توعد الله الكافرين بالعذاب والعقوبة على كفرهم، فهو لا محال مهلكهم إما عاجلاً وإما آجلاً، ولذلك سمي الهلاك: الإحاطة، وقال العلماء في قوله عز وجل: وظنوا أنهم أحيط بهم ـ أي دنوا للهلكة، وأصل هذا أن العدو إذا أحاط ببلد فقد دنا أهله من الهلكة، وحقيقة الإحاطة بالشيء ضم أقطاره ونواحيه وتصييره وسطًا كإحاطة البيت بمن فيه والأوعية بما يدور عليه، ثم اتسع فيه واستعمل فيما ذكرت لك لتقارب المعاني، ويقال حاط فلان فلانًا يحوطه: إذا حفظه، ومنه قيل: اذهب في حياطة الله وحفظه، ويقال: أنا أحوط عليه منك، أي: أحفظ له. اهـ.
وقال البيهقي في الأسماء والصفات: قال الحليمي: ومعناه أنه الذي لا يقدر على الفرار منه، وهذه الصفة ليست حقا إلا لله جل ثناؤه، وهي راجعة إلى كمال العلم والقدرة وانتفاء الغفلة والعجز عنه. اهـ.
وعلى ذلك تواردت أقوال المفسرين، قال الخازن في لباب التأويل: مُحِيطٌ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. اهـ.
وقال الماوردي في النكت والعيون: أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ـ فيه وجهان:
أحدهما: أحاط علمه بكل شيء، قاله السدي.
الثاني: أحاطت قدرته بكل شيء، قاله الكلبي. اهـ.
وقال الشوكاني في فتح القدير، وصديق حسن خان في فتح البيان: أحاط علمه بجميع المعلومات، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، يقال أحاط يحيط إحاطة وحيطة، وفي هذا وعيد شديد، لأن من أحاط بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء، جازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. اهـ.
وقال السعدي في تيسير الكريم الرحمن: أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء. اهـ.
والله أعلم.