عنوان الفتوى : تفسير (الصراط المستقيم) في سورة الفاتحة.

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

قرأت بعض التفسيرات في آية (اهدنا الصراط المستقيم) في سورة الفاتحة، وجميع ما قرأت أن هذا الصراط هو طريق الهداية والإرشاد في الدنيا، ولكن جميع الناس من حولي ينشرون علي مواقع التواصل الإجتماعي أنه صراط الآخرة الذي هو جسر فوق جهنم، فهل اختلف العلماء في تفسير هذه الآية؟ وإن كان هناك خلاف فما الراجح؟

مدة قراءة الإجابة : 13 دقائق

الحمد لله.

أولًا :

قال الله جل جلاله، في سورة الفاتحة، التي هي أم الكتاب، والسبع المثاني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7).

وقد سيمت هذه السورة العظيمة، أيضا : "الصلاة"، لما كانت أعظم أركان الصلاة القولية، ولا تصح صلاة العبد إلا بها . وقد قسمت معانيها بين ما لله على عبده من حق العبودية، وما للعبد عند ربه من سؤاله، والتضرع إليه.

روى مسلم في "صحيحه" (398) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .

قال الإمام ابن كثير، رحمه الله تعالى، في قول الله عز وجل: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ):

" لما تقدم الثناء على المسؤول، تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال؛ كما قال: ( فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ) ؛ وهذا أكمل أحوال السائل: أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهدنا، لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله تعالى إليه لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه، كما قال موسى عليه السلام: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص: 24]، وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول، كقول ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء: 87]، وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول، كقول الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء

والهداية هاهنا: الإرشاد والتوفيق، وقد تُعدى الهداية بنفسها كما هنا: اهدنا الصراط المستقيم ؛ فتُضمن معنى ألهمنا، أو وفقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا؛ وهديناه النجدين [البلد: 10] أي: بينا له الخير والشر. وقد تُعدى بإلى، كقوله تعالى: اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم [النحل: 121] فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات: 23]، وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، وكذلك قوله تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى: 52]. وقد تعدى باللام، كقول أهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا [الأعراف: 43]، أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا" انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/137).

وقال الشيخ السعدي، رحمه الله:

" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك." انتهى، من "تفسير السعدي"(39).

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(132386)، ورقم:(323666). 

ثانيا:

قال الإمام ابن كثير، رحمه الله:

" وأما الصراط المستقيم، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن "الصراط المستقيم" هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه.

وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:

أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم

قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر.

قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل، وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه.

ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله وللرسول". انتهى من "تفسير ابن كثير"(1/137).

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(348453). 

وحاصل المنقول عن أهل العلم في ذلك: أن الصراط المستقيم: إنما هو "دين الله تعالى" الموصل إليه، الذي هو الإسلام، وسلوك العبد فيه: إنما يكون بأخذه في ذلك الصراط علما، وعملا.

وقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما، فِي قَوْله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم : ألهمنا دينك الْحق . وقَالَ أيضا: ألهمنا الطَّرِيق الْهَادِي، وَهُوَ دين الله الَّذِي لَا عوج لَهُ.

وعَن جَابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قَالَ: هُوَ الإِسلام وَهُوَ أوسع مِمَّا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.

انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (1/38-39).

وأما أن "الصراط المستقيم" هو الجسر الذي ينصب على متن جهنم يوم القيامة، فلم نقف عليه في كلام أحد من السلف، ولا أئمة التفسير ، وإن كان قد نقل عن بعض أهل الكلام.

انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان(1/13).

وبعض أهل العلم ، من المتأخرين: يذكر أن "الصراط المستقيم" أمران:

الصراط المعنوي، وهو دين الله تعالى الذي أمره عباده بسلوكه، والأخذ به.

والثاني: الصراط الحسي، وهو الذي ينصب على جسر جهنم يوم القيامة، وهو صراط بلا ريب، كما جاءت به النصوص، وسمي مستقيما أيضا، اعتبارا لأمره بالسلوك على الصراط المستقيم في الدنيا.

قال الشيخ عبد العزيز السلمان، رحمه الله:

" والمرور عليه متفاوت على حسب الأعمال، وعلى حسب استقامتهم على الصراط المعنوي في الدنيا الذي هو دين الإسلام؛ فمن استقام على الصراط المستقيم في الدنيا - وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم - استقام على صراط الآخرة، ومن زل عن الصراط المعنوي، زل عن الصراط الحسي، وعلى قوة إيمانهم يكون قدر مرورهم" انتهى، من "الكواشف الجلية عن معاني الواسطية".

" وقد تكاثرت الأدلة في أنهم يعبرون على الصراط.

والصراط في الأصل: هو الطريق الذي يسار عليه، قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] . وهو صراط معنوي.

وفي الآخرة صراط حسي يعبر الناس عليه، ويسيرون عليه، وهذا الصراط منصوب على متن جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم." انتهى، من "شرح الطحاوية" للشيخ ابن جبرين، رحمه الله (64/11) الشاملة. وينظر: "شرح فتح المجيد" للشيخ الغنيمان(7/2)الشاملة.

والذي يظهر، والله أعلم: أن من ذكر ذلك من أهل العلم، وأدخل الصراط الذي يكون في الآخرة في "معنى" الصراط المستقيم المذكور في هذه الآية، لم يرد أن ذلك هو تفسيره المطابق، وإنما ذكره من باب "الإشارة" و"الاعتبار"، وارتباط السير على صراط الآخرة، وحال المار عليه، بحاله في السير إلى الله في الدنيا، وأخذه في صراطه المستقيم.

وقال ابن رجب الحنبلي، رحمه الله:

" وروى أبو الزعراء، عن ابن مسعود، قَالَ: ( يأمر الله بالصراط، فيضرب عَلَى جهنم، فيمر الناس عَلَى قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، وحتى يجيء آخرهم يتلبط عَلَى بطنه، فيقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: "إني لم أبطئ بك، إِنَّمَا أبطأ بك عملك. ) .

وذلك لأنّ الإيمان والعمل الصالح في الدُّنْيَا: هو الصراط المستقيم في الدُّنْيَا ، الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إِلَيْهِ، فمن استقام سيره عَلَى هذا المستقيم في الدُّنْيَا ظاهرًا وباطنًا، استقام مشيه عَلَى ذلك الصراط المنصوب عَلَى متن جهنم، ومن لم يستقم سيره عَلَى هذا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا، بل انحرف عنه، إما إِلَى فتنة الشبهات أو إِلَى فتنة الشهوات، كان اختطاف الكلاليب له عَلَى متن جهنم بحسب اختطاف الشبهات أو الشهوات له عن هذا الصراط المستقيم، كما في حديث أبي هريرة: "إنها تخطف الناس بأعمالهم" انتهى، من "مجموع رسائل ابن رجب"(4/346-347).

وقال أيضا:

" لما كانت النفسُ والهوى داعيين إِلَى فتح أبواب المحارم وكشف ستورها وارتكابها، جعل الله -عز وجل- لها داعيين يزجران مَن يُريد ارتكاب المحارم وكشف ستورهما:

أحدُهما: داعي القرآن، وهو الداعي عَلَى رأس الصراط يدعو الناس كلَّهم إِلَى الدخول في الصراط والاستقامة عليه، وأنْ لا يعوجوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا يفتحوا شيئًا من تلك الأبواب التي عليها الستور المُرخاة؛ قال اللَّه عز وجل حاكيًا عن عباده المؤمنين أنهم قالوا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا . والمُراد به القرآن عند أكثر السلف.

وقال حاكيًا عن الجن الذين استمعوا القرآن، أنهم لما رجعوا إِلَى قومهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ .

وقد وصف اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يدعو الخلق بالكتاب إِلَى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ .

وقد كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الخلق بالقرآن إِلَى الدخول في الإسلام الَّذِي هو الصراط المستقيم؛ وبذلك استجاب له خواصُّ المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار، ولهذا المعنى قال مالك: فُتحت المدينة بالقرآن. يعني: أنَّ أهلها إنَّما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن..

ومَن كان في الدُّنْيَا قد خرج عن الاستقامة عَلَى الصراط، ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها -سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات- أخذته الكلاليبُ التي عَلَى ذلك الصراط يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدُّنْيَا من أبواب المحارم ودخل إليها. فمنهم المكدوش في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو.

"رسائل ابن رجب" (1/205-206).

وينظر: "اجتماع الجيوش" لابن القيم (2/87).

والخلاصة:

أن الذي ينبغي نقله، وقوله في تفسير الصراط المستقيم: أنه دين الله تعالى، الذي هو الإسلام، وإن كان العبد على حسب سلوكه في هذا الصراط في الدنيا، يكون حاله في العبور على الصراط يوم القيامة.

والله أعلم .