عنوان الفتوى : الجمع بين زيارة أم المؤمنين عائشة لقبر أخيها وحديث: لعن الله زوارات القبور
في حديث عائشة عندما زارت قبر أخيها، وسألها ابن أبي مليكة: أليس قد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، فأجابت بأنه أمر بها بعد ذلك، وقد شرحه ابن عثيمين في القول المفيد صفحة: 441 ـ أن الصحابي استدل بالنهي، ولم يسألها عن لعن زوارات القبور، وأنها استدلت بلفظ العموم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد نهى عن الزيارة، ثم أمر بها، أي لم تأخذ بالخصوص، أو القيد، وهو لعن زوارات القبور، وأخذت بالأمر العام لنا بأن نزور القبور، ثم قال ابن عثيمين: إن عائشة كغيرها من العلماء لا يعارض قولها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل من المعقول أن عائشة جهلت لعن زوارات القبور؟ وإذا كنا نقدم أحاديث عائشة على أحاديث أبي هريرة في المسائل المنزلية، فنحن الآن نحينا رأيها، وقلنا: إنها لا تعلم، فهل يصح هذا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فنقول ابتداء: سبق لنا أن بينا في عدة فتاوى مشروعية زيارة النساء للقبور، ثم إن مسألة زيارة النساء للقبور، والخلاف في جوازها من المسائل التي تتسع لها صدور المؤمنين؛ لأن الأدلة تحتملها، ولا يبعد أن يخفى على عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ شيء من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث لعن زوارات القبور، وكم من صحابي خفي عليه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمر ـ رضي الله عنه ـ خفي عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن القدوم على أرض الطاعون والخروج منها لمن كان فيها، فأخبره بذلك عبد الرحمن بن عوف، وخفي عليه أيضًا حديث الاستئذان فأخبره به أبو موسى، الأشعري وأبو سعيد الخدري. وعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رضي الله عنه ـ خفي عليه أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا {الأحقاف: 15}، مَعَ قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. وَخَفِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ السُّدُسُ؛ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَهَا ذَلِكَ. وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ الْعَبَّاسِ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ؛ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ. وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حُكْمُ الْمُفَوِّضَةِ، وَتَرَدَّدُوا إلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا، فَأَفْتَاهُمْ بِرَأْيِهِ، ثُمَّ بَلَغَهُ النَّصُّ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَجَاءَ سِفْرًا كَبِيرًا. انتهى من إعلام الموقعين لابن القيم.
والشاهد أنه لا يُستبعد أن يخفى على عائشة ـ رضي الله عنها ـ شيء من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون غيرها من الصحابة قد علمه، قال ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: وأما فعلها مع أخيها ـ رضي الله عنهما ـ فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقًا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور، أو بلعن زائرات القبور، لكنا ننظر بماذا ستجيبه، فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عامًّا؛ ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة ـ رضي الله عنها ـ استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أنه روي عنها أنها قالت: لو شهدتك ما زرتك ـ وهذا دليل على أنها ـ رضي الله عنها ـ خرجت لتدعو له؛ لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة -رضي الله عنها-، لكننا نبقى على الراوية الأولى الصحيحة؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسخه، وإذا فهمت هي، فلا يعارض بقولها قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.
والله أعلم.