عنوان الفتوى : هل القول بأن الله يستجيب لمن يشاء يعارض قوله ( ادعوني أستجب لكم )؟
قال ابن الجوزي رحمه الله: " فإن لم يجبْ فعَل ما يشاء في ملكه، وإن أخَّر فعَل بمقتضى حكمته"، وقال:" أنه قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للإعتراض عليه." ألا يعارض هذا الكلام قول الله تعالى (ادعوني أستجب لكم)؟
الحمد لله.
هل يستجيب الله تعالى لمن يشاء؟
هذا الكلام حق، فإجابة الله تعالى لدعاء وسؤال العباد تحت مشيئته سبحانه وتعالى، ولهذا شواهد من نصوص الوحي، كقوله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ الأنعام/40 - 41.
وقال الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران/128.
روى البخاري (4069) عن سَالِم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ يَقُولُ:اللَّهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا. بَعْدَ مَا يَقُولُ:سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)".
قال البخاري (4070): وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)".
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" لما جرى يوم "أحد" ما جرى، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب، رفع الله بها درجته، فشج رأسه وكسرت رباعيته، قال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)، وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) ؛ إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تدع عليهم، بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام: فعل، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم، وعدم هدايتهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك؛ فعل.
وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم.
وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد، وأن العبد، وإن ارتفعت درجته وعلا قدره، قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره." انتهى من "تفسير السعدي" (ص 147).
وكما في حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا رواه مسلم (2890).
و في حديث عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ!
قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ .
رواه الترمذي (3573) وقال: "وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ".
لا تعارض بين إجابة الله لمن يشاء وقوله (ادعوني أستجب لكم)
وما سبق لا يعارضه قول الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر/60.
وقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة/186.
فبعض العلماء حاول الجمع بين هذه النصوص بأن الدعاء هنا بمعنى العبادة، أي: اعبدوني أثِبْكم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وعمدة من أول الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)، وأن كثيرا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها، لم يتخلف." انتهى من "فتح الباري" (11 / 95).
وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قال بعض العلماء: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ): اعبدوني أثبكم عن عبادتكم، ويدل لهذا قوله بعده: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
وقال بعض العلماء: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي: اسألوني أعطكم.
ولا منافاة بين القولين؛ لأن دعاء الله من أنواع عبادته." انتهى من "أضواء البيان" (7 / 104).
فالصواب: أن الدعاء هنا يشتمل على المعنيين، فهو بمعنى دعاء المسألة، وبمعنى دعاء العبادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وقد قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)، ثم قرأ قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين: (ادْعُونِي) أي اعبدوني وأطيعوا أمري؛ أستجبْ دعاءكم. وقيل: سلوني أعطكم. وكلا المعنيين حق." انتهى من"اقتضاء الصراط المستقيم" (2 / 313).
وقال رحمه الله تعالى:
"فقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان. وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعا؛ فتأمله، فإنه موضوع عظيم النفع، وقلّ ما يفطن له...
وعلى هذا: فالمراد به نوعي الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهر؛ أي ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه، وعبادته تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ): فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا أعقبه: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) الآية. ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا " انتهى من"مجموع الفتاوى" (15 / 11 – 12).
وبعضهم جمع بين هذه النصوص بأن ذهب إلى أن قوله تعالى (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) مقيد بالمشيئة.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
"وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) ؛ فيكون هذا من باب المطلق والمقيد." انتهى من "تفسير القرطبي" (3 / 179).
وهذا القول: إن حمل على إجابة الداعي بنفس ما طلب، فهو حق كما سبق في النقطة الأولى. والأظهر: أن الله تعالى يجيب المخلص المحقق لشروط الإجابة، وقد سبق بيانها في جواب السؤال رقم: (13506).
لكن الإجابة قد تكون بنفس ما طلب السائل، وقد تكون بما يراه الله خيرا للسائل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"... والجواب عن ذلك: أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضه، وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه: (مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا). ولأحمد من حديث أبي هريرة: (إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ). وله في حديث أبي سعيد رفعه: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا) وصححه الحاكم " انتهى من"فتح الباري" (11 / 95 – 96).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب أو مثله، وهذا غاية الإجابة.
فإن المطلوب بعينه: قد يكون ممتنعا، أو مفسدا للداعي، أو لغيره؛ الداعي جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه، وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه: أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له؛ فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى." انتهى من"مجموع الفتاوى" (14 / 368).
والله أعلم.