عنوان الفتوى : ماهية القلب والصدر والفرق بينهما
ما الفرق بين الصدر والقلب؟ توجد أذكار مثل: يا مقلب القلوب... ورب اشرح لي صدري. القلب معروف مكانه في جسد الإنسان، ولكن هل الصدر هنا يقصد به العقل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس المقصود بالصدر: العقل، وإنما هو الصدر المعروف الذي هو محل للقلب، وغيره من الأعضاء والقوى، فالصدر أعم من القلب وأشمل، فهو ساحته وحريمه، ومنه ترد الواردات على القلب.
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد): تأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل: في قلوبهم. والصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه، فدخل في قلبه. اهـ.
وقال البسيلي في (النكت والتنبيهات في تفسير القرآن المجيد): لم يقل {في قلوب الناس}، إشارةً إلى كثْرةِ وسوسَتِهِ وعمُومِها، وأن بدايتَها من الصدور، ونهايتَها للقلوب. اهـ.
وقال ابن باديس في (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير): الصدر ملتقى حنايا الأضلع، ومستودع القوى التي كان الإنسان إنساناً بها، ومجمع المُضَغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفرداً وجمعاً -فالحكم عليها بالشرح، والحرج، والضيق، والشفاء، والإخفاء، والإكناد- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية، ولا أجزاؤها المادية، إنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس، يوجه كيده ووسوسته دائما إلى هذه القلعة التي هي الصدر؛ لأنها مجمع القوى. وقال: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}، ولم يقل: في قلوب الناس؛ لأن القلب مجلى العقل، ومقر الإيمان، وقد يكون محصنا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره، ولا يستطيع له نقباً. اهـ.
ومن أهل العلم من فصل تفصيلا آخر في بيان هذه الخصوصية للقلب، والشمولية للصدر، فجعل ذلك من حيث أنواع القوى والمعارف، كما قال الراغب الأصفهاني في (المفردات): قال بعض الحكماء: حيثما ذكر الله تعالى القلب، فإشارة إلى العقل والعلم، نحو: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [ق/ 37]، وحيثما ذكر الصدر، فإشارة إلى ذلك، وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى، والغضب ونحوها. اهـ.
وفصل ذلك في تفسيره عند قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154].
فقال: ما الفرق بين قوله: {ما في الصدور}، وبين قوله: {ما في القلوب}، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟ ... حينما ذكر الإِيمان المحض، ذكر القلب، وكل موضعٍ يذكر الله في القرآن فيه العقل والإيمان، فإنه يخصُّ ذكر القلب، وإذا أراد ذلك وسائر الفضائل والرذائل ذكر الصدور، وهذا إذا اعتُبر بالاستقراء انكشف، نحو قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). وقوله: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقوله: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم). وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ). وقوله: (فِي صُدُورِ النَّاسِ)، ولما كان التمحيص أخصَّ من الابتلاء، كما تقدم خصَّه بالقلب، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها على بعض، فبإصلاح العمل يُتوصل إلى إصلاح ما في الصدور من الشهوة والغضب، وبهما وبإصلاح ذلك يَتوصل إلى إصلاح ما في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شك وريب .. ثم قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة. وخصَّ الصدور دون القلب، إذ هي أعم. اهـ.
والله أعلم.