أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
ليلة في الصرب قصة الكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب الساعة الحادية عشر ليلاً، تلك الساعة التي يغلق فيها مسرح باريس أبوابه.
وقد أخليت المقاهي والمطاعم من روادها قبل ذلك بنصف ساعة. وعلى إفريز الشارع، وقفنا زمرة حائرين.
كانت جموع الناس تخرج من أماكن اللهو فتختفي في ظلمات الشارع، والمصابيح ترسل ضوءاً خافتاً سرعان ما يمتصه الظلام، والسماء الحالكة تجذب إليها الأنظار بتلألؤ أضوائها، فيتطلع إليها الناس في نظرات من اقلق.
فقد كان ذلك الامتداد الفجائي للنور الكاشف أحياناً ما يكشف عن منطاد، تغمره الأشعة فيبدو كالسيجار المتوهج. وشعرنا بالرغم في الاسترسال في سهرتنا.
ترى أين نذهب وقد أغلقت باريس المكتئبة كل أبوابها؟.

وحدثنا أحد الصربيين عن مطعم لفندق معين، مفتوح الأبواب طول الليل، يستقبل رواده من الضباط، فيدلفون غليه خلسة وكأنهم من أصحابه.
وكان يتردد عليه سراً إخوان في السلاح من مختلف الأمم، قد قدموا إلى باريس لقضاء بضعة أيام فيها.
وقصدناه، ودلفنا إلى قاعة استقباله في احتراس، فشعرنا بالفارق الهائل بين أنواره الباهرة وظلام الليل المداهم.
كانت القاعة أشبه ما تكون منار كبير، وقد أنعكس من مراياها عناقيد الثريات الكهربائية، فخيل إلينا أننا ارتددنا بأعمارنا عدة سنوات.
النساء بزيناتهن، والشمبانيا، وتنهدات القيثارة، وزنجي يرقص وقد ارتعشت أجزاء جسمه في الحرارة - كان كل ذلك من مشاهد عهد ما قبل الحرب.
بيد أنه لم يكن هناك من الرجال من يرتدي لباس السهرة. وكان الجميع من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وروسيين وصربيين - مرتدين حللهم الرسمية الرثة، وقد علاها الغبار.
وكان بعض الجنود الإنجليز يعزفون على القيثارة، فيصفق لهم القوم في ابتسامات باردة كالرخام، وقد جلسوا مكان فرقة الغجر الموسيقية. وأومأت السيدات إلى جندي منهم يهمس باسم والده اللورد - صاحب الملايين الشهير، وهو ينشد قائلاً (دعونا نبتهج إيه الأخوان، فغداً نموت). كان كل هؤلاء الرجال الذين قربوا حياتهم لمذبح آلهة الحرب، يشربون العرق في جرعات كبيرة، ويضحكون، وينشدون، ويلقون بتحياتهم في حماس إلى أولئك الملاحين المغامرين الذين كانوا يقضون الليل على الشاطئ، ثم يعودون في صباح اليوم التالي لمجابهة العاصفة بشجاعة. ولاح على الضابطين الصربيين المرفقين لنا، دلائل الرضا.
فقد زج بهما وطنهما إلى باريس، مدينة الأحلام، تلك التي ظالما ملأت أفكارهما أثناء إقامتهما المملة بمعسكر في بلدة ريفية.
وكان كل منهم يعرف كيف يسرد قصته.
موهبة عادية في بلد يكاد يكون كل من فيه شاعراً.
فعندما مر لامرتين بالمقاطعة التركية بالصرب وقتئد منذ حوالي قرن، عجب لما للشعر من أهمية في تلك المقاطعة: مقاطعة الرعاة والمحاربين.
وكانت الأفكار والذكريات تنظم شعراً في الأرض قلّ أن تجد فيها من يقرأ ويكتب.
لقد مد المؤرخون الوطنيون من أجل الإلياذة الصربية، بما نظم من أناشيد جديدة. ونذكر الضابطان وهما يحتسبان الشمبانيا، بؤس أيام تراجعهما منذ أشهر مضت: الكفاح ضد الجوع والبرد، والمعارك التي دارت على الجليد، واحد ضد عشرة، وفرار الناس والحيوانات في ارتباك مفزع، والمدافع الرشاشة والبنادق تنطلق دون انقطاع إلى مؤخرة الطابور، والقرى المحترق، والجرحى، والمشردون يئنون وسط اللهيب، والنساء المشوهات ولقد حامت حولهن الغربان، وفرار الملك بطرس العجوز، الكسيح من مرض الروماتزم، دون أن يكون له معين سوى عصاه الخشبية، وقد أخذ هو ومن معه من حاشيته يتسلقون الجبال، محني القامة، صامتاً، يتحدى القدر وكأنه أحد ملوك شكسبير. وراقبت الضابطين الصربيين وهما يتحدثان.
كان كلاهما في غضارة الصبا، قوياً ممشوق القمة، ذا أنف اقني كأنه منقار النسر، وشارب مدبب الطرف، وقد انفلتت خصلات الشعر من تحت قبعتيهما الصغيرتين.
وارتدى كلاهما حلة في لون الخردل، ولاح عليهما الهدوء الذي يضفي على الشجعان الدائبين على نفض الموت من فوق أكتافهم. واسترسلا في الحديث: تكلما عما حدث منذ شهور قلائل، وكأنهما يتحدثان عن مغامرات ماركو كرايلوفتش (السيد) الصربي الذي تسلح بأفعى كأنها الحربة، ليحارب بها شاربي الدماء بالغابات، ومال يهما الحديث إلى ذكريات طفولتهما القاسية. ثم قام صديقنا الفرنسي، وأستأذن ورحل، وكان أحد الضابطين يقطع استماعه إلى الحديث بالتطلع إلى مائدة جانبية.
كانت ترنو غليه عينان حالكتان، تعلوهما قبعة من الريش الحرير الأبيض، ولا شك أنهما استرعتا ناظريه، فقد هب واقفاً كأنما أنجذب بدافع لا يقاوم، وسارة صوب تلك المائدة وإن هي إلا لحظات حتى اختفى، واختفت معه القبعة الحريرية. وتركت وحيداً مع الضابط الآخر، وكان أصغر من رفيقه سناً وأقل منه حديثاً.
وأرتشف رشفة من قدحه وهو يتطلع إلى الساعة الموضوعة على المقصف.
ثم أرتشف رشفة أخرى؛ وأخيراً نظر إليّ تلك النظرة التي تسبق دائماً الإفضاء بسر خطير.
وأدركت حاجته إلى الإدلاء إلي بحادث مؤلم يعذب ذاكرته ونظر إلى الساعة مرة أخرى: كانت الواحدة صباحاً. وعلى حين غرة، أخذ يصيغ حديث الصامت في كلمات، قال - حدث ذلك في هذا الوقت، منذ أربعة أشهر.
وأخذ يتابع حديثه، وأنا أتخيل معه الليل الحالك، والجليد الذي يغمر الوادي، والجبال الناصعة البياض المغطاة بأشجار الزان والصنوبر، وقد هزة الريح إفنائها فتساقطت منها ذرات البرد الأبيض.
ورأيت أطلال قرية، ترابط فيها فرقة صربية، آخذة في التراجع صوب البحر الأدرياتيكي. كان صديقي يقود مؤخرة هذا الحرس، كتلة من الرجال، محلة أصبحت قطيعاً من الرعاع.
يرافقهم أهل القرى في ذهول من الألم والخوف، فيتحر كون بلا إرادة كالآلات، وينساقون إلى الأمام كالحيوانات، وكانت النساء، الداكنات، المشوقات، القويات، يسرن في صمت فاجع، وينحنين على الأموات أثناء مرورهن فينزعن منهم بنادقهم وذخيرتهم. وبدا الظلام متوهجاً بضوء أحمر متلألئ من القنابل المتطايرة بين الأطلال.
فاستجاب إليها أعماق الليل وأقبلت معه التوهجات القاتلة، وأز في الظلام الدامس الرصاص: حيوانات الليل الخفية. كان كلما أتى الصباح، يبدأ الهجوم، وكانوا يجهلون عدد من هناك، أولئك الذين يصطفون ضدهم في الظلام.
أهم ألمان؟ نمسيون؟ بلغاريون؟ أمأتراك؟.
لقد فرض عليهم أن يجلبوا الكثيرين منهم. وأسترسل الصربي في الحديث قال: (كان لا مناص لنا من التراجع، مخلفين وراءنا أولئك الذين يعوقون تقهقرنا.
وكان لزاماً علينا أن تصل إلى الجبال قبل أن يتنفس اصبح). وكان الطابور الطويل من النساء والأطفال والكهول وما أختلط بهم من قطيع الحيوانات قد أبتلعهم الليل، ولم يبقى في القرية سوى الرجال القادرين، يحاربون من مخابئهم بين الأطلال وقد أخذ جزء منهم فعلاً في التقهقر. وبغتة، انتابت الضابط ذكرى قاسية. الجرحى ما الذي تفعله بهم؟ كان أكثر من خمسين رجلاً ممددين على القش في حظيرة مزقت القنابل سقفها.
رجال يعانون آلاما مبرحة، رجال مذهولون، يتململون في نومهم ويثنون، جنود أصيبوا بجراحهم منذ أيام مضت، واستطاعوا أن يجروا أنفسهم جراً إلينا، وجنود أصيبوا في ذات الليلة يتبعهم سيل من الدم الجديد، وقد ضمدت جراحهم بضمادات مستعملة، ونساء أصبنا بشظايا القنابل).
. ودلف القائد إلى ذلك الملجأ الذي تفوح منه خبيث الروائح من الأجسام المتداعية، والدم الجاف، والملابس القذرة والأنفاس المتصاعدة، وعندما تفوه بأول كلماته، تحرك أولئك الذين لا تزال لديهم بقية من القوة، في تململ ومشقة تحت ضوء المصباح الوحيد المتعالي دخانه، وصمتت الإناث، صمتة الدهشة والرعب، كما لو أن هؤلاء الرجال المحتضرين يخشون شيئاً أكثر رهبة من الموت. ولما سمعوا أنه لا مناص من تركهم تحت رحمة العدو، حاولوا النهوض جميعاً، ولكن تهالك معظمهم في إعياء.
وأرتفع نشيد من التوسلات اليائسة، والصلوات الحارة، صوب القائد وجنوده الذين كانوا بصحبته: (أيها الأخوان، لا تهجرونا، أيها الأخوان، بحق المسيح.
). وعندما وعت عقولهم في بطئ أنه لا مفر من تركهم، رضوا بمصيرهم في خضوع.
ولكن.

وقوعهم في أيدي الأعداء! وبقاؤهم تحت رحمة البلغاريين والأتراك، أعدائهم منذ قرون بعيدة! وأفصحت أعينهم بما لم تجرأ شفاههم على الإفصاح.
أنه من اللعنة أن يؤخذ الصربي أسيراً.
وأرتجف الكثيرون ممن شرفوا على الموت، عندما أدركوا أنهم على وشك فقد حريتهم.
إن انتقام البلغاريين لأكثر خوفاً من الموت. (أيها الأخوان، أيها الأخوان.
). وأدرك القائد رغباتهم المختفية في صيحاتهم، فنحى عينيه عنهم.
وسألهم العديد من المرات (أتطلبون مني أن.
.؟). وحرك الكل رؤوسهم بالإيجاب.
أنه إذا كان لا مفر من تركهم، فلا يليق به أن يغادر خلفه صربياً حياً.
ألا يطلب هو نفس الطلب لو كان في مكانهم؟ وكانت قلة الذخيرة بسبب التقهقر قد جعلت الجنود يحتفظون برصاصهم في غيرة.
وسل القائد حسامه.
كان بعض الجنود قد بدأ في القيام بمهمته وقد أستعمل سلاح بندقية في تردد وبلا دقة.
طعنات طائشة بلا هدف، ودافق فياض من الدم.
وجر كل الجرحى أنفسهم صوب القائد لينالوا شرف الموت من يديه، وقد جذبتهم رتبته ومهارته في الضرب. وجعل يدفع نصل حسامه الممشوق في رقابهم، جاهداً أن يقطع شريان الحياة في ضربة واحدة. وهكذا جعل القائد يصف المشهد المهول وكأنه مائل أمام عيني وأقبلوا زاحفين على أربع، وتجمعوا حول قدميه.
وحاول في بادئ الأمر أن ينحي برأسه بعيداً حتى لا يرى ما الذي يفعله، وقد امتلأت.
ولكن كان من جراء ذلك الضعف الذي أنتابه أن صار يطعن بلا دقة، مما أضطره إلى إعادة الطعنات وإطالة الآلام.
فليهدأ إذا! بيد ثابتة، وقلب جامد! (أيها الأخ خذني!.
.
خذني!). وتجادلوا حول أسبقيتهم في الموت، كما لو كانوا يخشون الوقوع بين أيدي أعدائهم قبل أن تتم الضحية الأخوية.
وتعلموا بالغريزة كيف يضعون أعناقهم الوضع المناسب.
فكان كل واحد منهم يضع رأسه ويميل به على جانب واحد، حتى يكون العنق مشدوداً، والشريان متصلباً مهيئاً للطعنة القاتلة. (أيها الأخ، خذني!). وأنبثق دافق من الدم.
وكان كل منهم يسقط فوق الجثث الأخرى، تلك التي (نضب) منها الدم وكأنه زق من النبيذ القاني. وأخذ المطعم يخلوا من رواده.
ومرت السيدات متكئات على الحلل الرسمية، وقد تضوع من ملابسهن عبير خفيف.
وتنهدت قيثارة الإنجليزي آخر تنهداتها وسط عاصفة من الضحكات. وكان الصربي قد أمسك سكيناً صغيراً، وجعل يطعن المائدة في حركة آلية.

حركة رجل لم ينس.
.
ولن ينسى.
.
طعنات متتالية متواصلة.
محمد فتحي عبد الوهاب

شارك الخبر

المرئيات-١