عنوان الفتوى : هل تباح المسلسلات الهادفة التي مصالحها أكثر من مفاسدها؟
هل يجوز الاستدلال بقاعدة "إذا غلبت المصالح المفاسد قدمت المصالح على المفاسد" في المسلسلات الهادفة التي تكون مصالحها أكثر من مفاسدها، ومفاسدها قليلة؟
الحمد لله.
أولا:
إذا اجتمع في أمر مصلحة ومفسدة فما المقدم؟
مما قررته أصول الشرع أنه: إذا اجتمع في الأمر مصلحة ومفسدة، وكانت المصلحة راجحة، قدمت المصلحة، وذلك كالنطق بالكفر عند الإكراه، لتحصيل مصلحة حفظ النفس، تقديما لها على مفسدة النطق بالكفر.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد: فإن أمكن تحصيل المصالح، ودرء المفاسد: فعلنا ذلك؛ امتثالا لأمر الله تعالى فيهما ، لقوله سبحانه وتعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)التغابن/16.
وإن تعذر الدرء والتحصيل ، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة : درأنا المفسدة ، ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [البقرة: 219] ؛ حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما. أما منفعة الخمر فبالتجارة ونحوها، وأما منفعة الميسر فبما يأخذه القامر من المقمور.
وأما مفسدة الخمر فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
وأما مفسدة القمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها.
وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة : حصلنا المصلحة ، مع التزام المفسدة.
وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يُتخير بينهما ، وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد" انتهى من "قواعد الأحكام" (1/98).
وقال السبكي رحمه الله: " قاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ويستثنى مسائل: يرجع حاصل مجموعها إلى أن المصلحة إذا عظم وقوعها وكان وقع المفسدة أقل . كانت المصلحة أولى بالاعتبار.
ويظهر بذلك أن درء المفاسد؛ إنما يترجح على جلب المصالح إذا استويا" انتهى من "الأشباه والنظائر" (1/105) بتصرف يسير .
وينظر للفائدة: جواب سؤال:(أهمية فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد)، وجواب سؤال:(فقه الموازنات).
ثانيا:
حكم مشاهدة المسلسلات الهادفة التي فيها أشياء محرمة
سبق أن بينا حالات اجتماع المصلحة والمفسدة وما يقدم منهما في جواب السؤال رقم:(184242)، وذكرنا أن "أن تقرير كون المصلحة أرجح وأعظم من المفسدة في هذه الحالة ، من المباحث الدقيقة التي تقتضي كثيراً من التأني والتأمل في الأدلة الشرعية ، ومن ذلك مراعاة تعلق المصلحة أو المفسدة بالضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات ، واعتبار هذه المستويات أثناء المقارنة الترجيحية بينهما، وإلا وقع الخطأ والخلل ، واضطربت القواعد بسبب الإجمال".
ولهذا نقول: المسلسلات التي تشتمل على الموسيقى، والاختلاط، وظهور النساء كاسيات عاريات، لا تباح مشاهدتها، لما فيها من مفاسد النظر المحرم، والسماع المحرم، وتعلق القلب بالصور المحرمة، ومرضه بها، وضياع الوقت، وخراب البيوت لنفور الرجل من زوجته، وتنمّر المرأة على زوجها، وإفساد الفكر والتصور، وإضعاف الوازع النفسي تجاه المحرمات، وتعظيم الكفرة والفسقة، والدعوة للتشبه بهم، وغير ذلك من البلايا والمصائب التي لا تخلو منها هذه المسلسلات.
ثم إن النظر في هذا الترجيح، إنما يكون حيث تتعين تلك الطريق المعينة لتحصيل المصلحة المذكورة؛ فأما حيث أمكن تحصيلها من طريق أخرى، خالية من مفاسد تلك الطريق، لم يبق وجه لاحتمال تلك المفاسد.
وعلى ذلك يقال: إنه لا عبرة بالمصالح التي تقال هنا، كالتسلية، ومعرفة أحوال المجتمع، والاطلاع على التاريخ، فإن التسلية لا تكون بالحرام، وأحوال المجتمع معلومة مشاهدة لا تحتاج إلى مسلسل يبرزها، والتاريخ يمكن الاطلاع عليه من مصادره، وكثير مما يرد منه في المسلسلات زائف لم يقع على نحو ما صوروه.
فالمقصود أن المصالح قد تكون متوهمة، مع أنها لا وجود لها، فضلا عن أن تكون راجحة على المفاسد، فإن وجدت وكانت دون المفاسد أو ساوتها، فإن "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة".
والإعمال الخاطئ للقاعدة السابقة قد يؤدي إلى إباحة الربا، والمسارح، والسينما، وغير ذلك مما هو منكر أو مشتمل على منكر.
ثم إن تقدير ذلك كله ، والنظر فيه ، وترجيح الراجح على المرجوح : إنما هو وظيفة العالم المفتي، وليس وظيفة آحاد الناس، ولا عوامهم، أن يرجح ما يتوهمه من المصالح، أو يهمل ما يراه من المفاسد، بل لا بد له في آحاد هذه المسائل من الرجوع إلى أهل العلم للنظر في المصالح التي يدعى أنها راجحة على المفاسد.
فإن وجدت مسلسلات خالية من هذه المفاسد، أو فيها مفاسد قليلة، وتحققت فيها مصالح معتبرة، كتصحيح العقيدة، وترسيخ القيم الصحيحة، والدعوة للأخلاق الفاضلة، فالقول بإباحتها حينئذ ظاهر، مع مراعاة ما لا يجوز تمثيله كالأنبياء والصحابة.
وينظر: جواب السؤال رقم:(228486)، ورقم:(158232)، ورقم:(10836)، ورقم:(14488).
والله أعلم.