عنوان الفتوى : شرح مراتب إدراك العلم
قال الشيخ محمد ابن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - في شرحه"ثلاث الأصول" عن مراتب الإدراك، أريد أن أفهم هذه المراتب بالأمثلة.
الحمد لله.
مراتب الإدراك الذي ذكرها الشيخ ابن عثيمين
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
ومراتب الإدراك ست:
الأولى: العلم ، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
الثانية: الجهل البسيط ، وهو عدم الإدراك بالكلية.
الثالثة: الجهل المركب ، وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
الرابعة: الوهم ، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح.
الخامسة: الشك ، وهو إدراك الشيء مع احتمال مساوٍ.
السادسة: الظن ، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ مرجوح " انتهى من"شرح ثلاثة الأصول" (ص 18).
شرح وتوضيح مراتب إدراك العلم
المراد أن تصور الذهن لشيء ما، هو على هذه المراتب:
المرتبة الأولى:
أن يكون هذا التصور قائما على دليل صحيح؛ من وحي صحيح صريح، أو عقل أو حسّ سليمين، لا يتطرقه الاحتمال، فهذا يعتبر علما، والمقصود به هنا "اليقين".
كتوحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، فهذا أمر يقيني، فهو قائم على أدلة الوحي الصحيح الصريح والعقل السليم، لا يتطرق إليه الاحتمال.
وكمن نظر إلى الشمس نهارا ، فقال: الشمس طالعة، فهذا الإدراك يسمى "العلم" أي: "اليقين".
المرتبة الثانية:
وقد يكون التصور قائما على أدلة يتطرق إليها الاحتمال، لكن جانب صحتها أقوى، فهذا هو "الظن".
وبسبب أن "الظن" قد يطلق على "الشك" أيضا، فلذا تقيّد هذه المرتبة بقيد "الظن الغالب".
وهو حجة إذا تعذر الدليل الذي يفيد اليقين.
قال أبو يعلى الفراء رحمه الله تعالى:
" والظن: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
وغلبة الظن: قوة الظن، فإن الظن يتزايد، ويكون بعض الظن أقوى من بعض...
والظن: طريق للحكم، إذا كان عن أمارة مقتضية للظن، ولهذا يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين وخبر المقومين، إذا كانا عدلين، ويجب العمل بالقياس، وإن كانت علة الأصل مظنونة، ويجب استصحاب حكم الحال السابق في حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة، والطلاق بعد النكاح، والشك في العتاق بعد الملك؛ لأن الظاهر بقاؤه وعدم حدوث المشكوك فيه " انتهى من"العدة" (1 / 83).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد، كقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أخرجاه في الصحيحين.
فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة - من هذه المسائل الدقيقة - قد يكون عند كثير من الناس مشتبها لا يقدر فيه على دليل يفيده اليقين؛ لا شرعي ولا غيره، لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غالب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين؛ بل ذلك هو الذي يقدر عليه " انتهى من"مجموع الفتاوى" (3 / 313 - 314).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" حكم الذهن ينقسم إلى جازم وغيره، فالجازم هو العلم والاعتقاد، وغير الجازم إما أن يترجح أحد الطرفين: فالراجح الظن...
ثم اعلم أن الظن الذي يعتبر حجة شرعية: هو حكم الذهن الراجح، وله شروط:
منها: أن لا يعارضه دليل آخر يبطله أو يضعفه، إذا كان هذا المعارض ظاهرا في نفسه، بحيث يُعَدُّ الشخصُ مقصرا في عدم التنبه له والبحث عنه.
ومنها: أن يكون عن دليل. فلو فرض أن شخصا وقع في ذهنه ترجيح حكم من غير أن يستند إلى دليل، لم يكن حجة، وشرط الدليل أن يكون مما يحصل مثله الظن، فلو وقع في ذهن أحد ترجيح حكم لحديث ضعيف، لم يكن حجة..." انتهى من"آثار الشيخ المعلمي" (4/25).
ومثل ذلك: لو أن شخصا كان موجودا في وادٍ من الأودية ، وحوله الجبال من جهة المشرق والمغرب، فلا يستطيع رؤية غروب الشمس، فإنه متى غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، فإنه يجوز له أن يصلي المغرب، ويفطر إن كان صائما، ولا يلزمه أن ينتظر حتى يصل إلى اليقين .
المرتبة الثالثة:
التصور القائم على أمور محتملة الصحة والخطأ، ولا يتقوى جانب منها.
فهذا يسمى بـ "الشك" .
والشك لا قيمة له، فيُطَّرح ولا يلتفت إليه في الغالب.
كعدم القدرة على رؤية هلال رمضان بسبب الغيم، فالذهن يتصور احتمال رؤية الهلال لولا الغيم، ويحتمل عدم القدرة، فهذا الشك باحتمال الرؤية لا يعمل به، فلا يجب الصيام.
قال أبو يعلى الفراء رحمه الله تعالى:
" والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر...
والشك: ليس بطريق للحكم في الشرع، ولا يلزم على هذا الصيام يوم الشك؛ لأنه ليس الموجب لصيامه الشك، وإنما الموجب قيام الدليل، ألا ترى أنه يوجد الشك ولا يجب الصيام، وهو ما إذا كانت السماء مُصْحية، لعدم قيام الدليل " انتهى من"العدة"(1/83).
ومثاله أيضا : في الحالة السابقة إذا تساوى عند المسلم احتمال غروب الشمس، مع احتمال عدم غروبها، لم يجز له أن يصلي المغرب ولا أن يفطر ، حتى يغلب على ظنه أنها غربت .
المرتبة الرابعة:
التصور القائم على أمر يخالف الأدلة الصحيحة الصريحة.
ومثل هذا التصور يسمى "وهما" لمخالفته للعلم الصحيح، فهو أضعف من الشك.
قال بدر الدين الزركشي رحمه الله تعالى:
" الوهم: هو الطرف المرجوح.
قال ابن الخباز: وهو كنفور النفس من الميت، مع العلم بعدم بطشه، ونفورها من شرب الحلاب في قارورة الحجام، ولو غسلت ألف مرة.
ولا ينبني عليه شيء من الأحكام إلا في قليل..." انتهى من"البحر المحيط" (1 / 80).
ومثل ذلك: لو غلب على ظن المسلم أن هذا الثوب طاهر، فإنه يحكم بطهارته وبلبسه ويصلى فيه، وإن كان هناك احتمال ضعيف أنه نجس، وهذا الاحتمال الضعيف هو "الوهم" فلا عبرة به، ولا تنبني عليه الأحكام .
المرتبة الخامسة:
أن يخلو الذهن من أيّ تصور عن المسألة، فهذا هو "الجهل البسيط".
ومثاله : لو قيل لشخص : متى كانت حجة الوداع – مثلًا - ؟ فقال : لا أدري ، فهذا جهل بسيط ، أي عدم المعرفة بالشيء .
ويطلق الجهل البسيط أيضا على صاحب الشك، لأن الشك ليس علما ولا مقاربا له.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى:
" والشَّكُّ: ضرب من الجهل، وهو أخصّ منه، لأنّ الجهل قد يكون عدم العلم بالنّقيضين رأسا، فكلّ شكّ جهل، وليس كلّ جهل شكّا " انتهى من"المفردات" (ص 461).
المرتبة السادسة:
إذا كان الشخص جاهلا جهلا بسيطا، لكنه اتبع سبيلا لا يفيد علما، فتصور بسببه صورة مغلوطة عن المسألة، وظن أنها الصواب، فهذا الحال يسمى بـ "الجهل المركب".
كما لو سئل شخص : متى كانت حجة الوداع ؟
فقال : في السنة الخامسة .
فهذا جهل مركب، لأنه أدرك الشيء على خلاف حقيقته، أما صاحب الجهل البسيط: فلم يدرك الشيء من الأصل .
ومن أشهر الأمثلة لهذا؛ من يتبع الطرق العقلية أو ما تهواه وتتذوقه نفسه في معرفة المسائل التي سبيلها الصحيح هو نصوص الوحي، ثم يحسب نفسه أنه على علم.
قال القرافي رحمه الله تعالى:
" والجهل المركب سمي بذلك لتركبه من جهلين؛ فإنه يجهل، ويجهل أنه يجهل؛ كأرباب البدع والأهواء، فإنهم يجهلون الحق في نفس الأمر، وإذا قيل لهم أنتم عالمون أو جاهلون؟ قالوا عالمون، فقد جهلوا جهلهم، فاجتمع لهم جهلان فيه فسمي جهلا مركبا...
والجهل المركب يقابله الجهل البسيط، وهو أن يجهل، ويعلم أنه يجهل، كما إذا قيل له أنت تعلم عدد شعر رأسك أو تجهله؟ يقول أجهله، فإذا قيل له فأنت تعلم أنك جاهل بذلك؟ يقول نعم " انتهى من"شرح تنقيح الفصول" (ص 63).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"الجهل قسمان:
بسيط: وهو عبارة عن عدم المعرفة مع عدم تلبس بضدٍّ.
ومُرَكَّب، وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة.
والقسم الأول هو الذي يطلب صاحبه العلم، أما صاحب الجهل المركب فلا يطلبه" انتهى من "بدائع الفوائد" (4 / 1664).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" كما قال بعض السلف: العلم بالكلام هو الجهل، فهم يظنون أن معهم عقليات، وإنما معهم جهليات: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). هذا هو الجهل المركب " انتهى من"مجموع الفتاوى" (6 / 243).
وقال رحمه الله تعالى:
" فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر، كان عند من جاء بالقرآن جاهلا، ضالا، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟
فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب.
ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلا لهؤلاء، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، فهذا مثل أهل الجهل المركب.
وقال تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، فهذا مثل أهل الجهل البسيط...
فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أن غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه.
وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة.
ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات " انتهى من"درء تعارض العقل والنقل" (5 / 376 - 377).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |