عنوان الفتوى : الزينة الظاهرة التي يجوز للمرأة إبداؤها للرجال الأجانب
قلتم في إحدى فتاويكم: إنّه لا قائل بجواز تزيّن المرأة بالأصباغ في وجهها، وإظهار ذلك للأجانب مطلقًا، لا خفيفه ولا كثيره، وهاكم نقولًا تبيّن لكم خطأ ما ذهبتم إليه، وأنّ هذا الفهم ليس بشاذ، بل هو فهم سليم: قال الإمام ابن عادل الحنبلي في تفسيره اللّباب في آية: إلا ما ظهر منها ـ وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة، قالوا: إنه تعالى إنما ذكر الزينة؛ لأنه لا خلاف في أنه يحل النظر إليها حال انفصالها عن أعضاء المرأة، فلما حرم الله النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة، وعلى هذا القول: يحل النظر إلى زينة وجهها من الوَشمَة، والغُمْرَة، وزينة بدنها من الخضاب، والخواتيم، والثياب؛ لأن سترها فيه حرج؛ لأن المرأة لا بد لها من مزاولة الأشياء بيديها، والحاجة إلى كشف وجهها للشهادة، والمحاكمة، والنكاح... وقد فهم هذا الفهم الزمخشري ـ رحمه الله ـ حيث يقول في الكشاف:... فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة؟ ذلك العضو كله، أم المقلد الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح: أنه العضو كله، كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم، والفتخة، والخضاب بالحناء... فالمسألة ليست بالغريبة؛ لأنّ الذين أجازوا الكحل لا بد أن يجيزوا زينة الخدّين، كما شرح ذلك الزمخشري، المهمّ أنا لا أقول: إنّ هذا الفهم هو الصّحيح، ولكن أقول: هو فهم معتبر، لا داعي لإنكاره؛ لأنّه قد يكون عرفًا جاريًا في منطقة ما، فلا داعي لتخصيص العموم المطلق في الآية، والقول بأنّه لم يسبق إلى مثل هذا الفهم، ولا تقولوا لنا بأنّ الزمخشري غير معتبر؛ لأنّه يتكلّم عن مسألة لغوية، وابن عادل مفسّر كبير لم يعب مثل هذا الفهم، والحمد لله ربّ العالمين، وعليه؛ فالمسألة ليست شاذة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة مسألة معروفة في كتب أهل العلم من المفسرين، والفقهاء، وهي تحديد الزينة الظاهرة التي يجوز للمرأة إبداؤها للرجال الأجانب، والخلاف فيها معروف ومشهور، ونحن لا ننكر أن الكحل، والخضاب، والخاتم، بل حتى السوار مما حصل فيه اختلاف، وقد سبق أن ذكرنا ذلك تفصيلًا في الفتوى رقم: 22222.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: السلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود، ومن وافقه: هي الثياب. وقال ابن عباس، ومن وافقه: هي في الوجه، واليدين، مثل الكحل، والخاتم...
وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛، لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ـ حجب النساء عن الرجال... والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود، وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد، وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها... فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين. اهـ.
وذكر الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان هذا الخلاف وما فيه من آثار وأقوال، ثم قال: وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا:
الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجًا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها، كقول ابن مسعود، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب؛ لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها، وهي ظاهرة بحكم الاضطرار، كما ترى، وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا، وأحوطها، وأبعدها من الريبة، وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة: ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضًا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب، والكحل، ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن، كما لا يخفى.
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها، كقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه، والكفان... اهـ.
ثم وازن الشيخ بين هذه الأقوال، وضعف القول الثالث، ثم قال: أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود ـ رضي الله عنه: أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا: إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها، ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها، كما هو معلوم، والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي... اهـ.
والمقصود أن مجرد وجود الخلاف في كون الكحل، والخضاب، والخاتم، والسوار من الزينة الظاهرة: أمر واضح لا ينكر، ولكن هل في حكم ذلك ما يعرف في عصرنا اليوم بالمكياج بما فيه من المبالغة في التزين والتبرج، مع يسر إزالته بغسله مقارنة بالخضاب، والكحل، ونحو ذلك من أنواع الزينة الطبيعية المستعملة قديمًا؟! ولا نظن أن مثل هذا يحتمل النزاع، ولا سيما إن كانت المرأة لا تضعه في بيتها، ثم يشق عليها إزالته عند خروجها، كما هو الحال بالنسبة للكحل، والخضاب، وإنما تضعه عند خروجها من بيتها خصوصًا، تزينًا قد يفضي للتبرج للأجانب، وعلى هذا يحمل ما ذكر في فتاوينا السابقة، كالفتويين رقم: 126976، ورقم: 306343.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 200307.
وعلى أية حال؛ فإن كان السائل يعلم من أهل العلم المعتبرين المعاصرين من يبيح للمرأة تعمد وضع الزينة الصناعية -المكياج- عند خروجها من بيتها تزينًا للأجانب، فليفدنا به مشكورًا مأجورًا ـ إن شاء الله ـ.
ولمزيد الفائدة حول التفريق بين الزينة بالأصباغ الكيماوية الحديثة المكياج وبين الزينة المستعملة قديمًا- كالكحل الطبيعي، والحناء- يمكن الاطلاع على كتاب: زينة المرأة بين الطب والشرع ـ للشيخ الدكتور محمد بن عبد العزيز المسند، فقد جمع مؤلفه طائفة من أقوال الأطباء المتخصصين حول أدوات الزينة الحديثة والقديمة.
والله أعلم.