عنوان الفتوى : لا يصدر من المخلوقات إلا ما قدّره الله
هل الله يقدر الأمور حتى نسلك طريقًا معينًا؟ لأن الله يعلم مكنونات القلب، فيعلم ما يحب كل شخص، وما يكره، ويعلم نقاط ضعفه وقوته، فلو قرأنا قصة آدم وجدنا قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة ـ فالله قدر عليه الأمور حتى يسلك طريقًا معينًا، فجعله يشعر بالوحدة، ثم قدّر له حواء، ويسّر لإبليس دخول الجنة فوسوس لهما، وحواء تحثه، ثم بعدها أكلا من الشجرة، وهبطا من الجنة، ولتوضيح الصورة أكثر: خذ قصة إبليس، فالله يعلم مكنونات قلب إبليس، وماذا يكره، فقدّر الله له أن يرفعه إلى السماء، ويعلم الله ما يثير مكنونات قلب إبليس وما يثير حسده، فقدر خلق آدم، فشعر إبليس بعدها بالحسد، وانتهى حاله إلى ما سمعنا، ومثال آخر: خذ رجلًا أنت قمت بتحليله، وعرفت عن هذا الرجل ما يحب وما يكره، ولأنك تكرهه وضعت ما يحبه في الطريق الذي يؤدي به إلى الهلاك، والذي يكرهه وضعته في طريق النجاة، أو شخصًا تحبه وضعت ما يحبه في طريق الفلاح، وما يكرهه في طريق الهلاك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى هو مقدر الأقدار كلها، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}.
وهو سبحانه وتعالى عالم بخفايا النفوس، وما تكنه الضمائر، كما قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ {الإسراء:25}.
وقال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ {النجم:32}.
وإبليس وغيره من المخلوقات لا يصدر منهم إلا ما قدره الله، وعلم به، ودبره، ولكن لهم مشيئة وإرادة وقدرات يتحركون بها، وعليها يحاسبون، وهذه القدرات محكومة بقدرة الله، فلا يقع من عباده إلا ما سبق علم الله وقضاؤه به، ولا ينالهم شيء، ولا يصيبهم من خير أو شر إلا ما كتب الله لهم، وقد أشار بعض المفسرين لشيء من هذا التقدير الذي يدبره الله تعالى في رحلة بني إسرائيل من العراق لمصر، فقد قال الأستاذ سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن، في تفسيره لقول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49} من ذا الذي يذكر مثلًا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه، لم يكن حادثًا شخصيًّا فرديًّا.. إنما كان قدرًا مقدورًا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، فيأخذوه فيلقوه في الجب ـ ولا يقتلوه ـ لتلتقطه السيارة، لتبيعه في مصر، لينشأ في قصر العزيز، لتراوده امرأة العزيز عن نفسه، ليستعلي على الإغراء، ليلقى في السجن.. لماذا؟ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك، ليفسر لهما الرؤيا.. لماذا؟ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب! ويقف ناس من الناس يسألون: لماذا؟ لماذا -يا رب- يتعذب يوسف؟ لماذا -يا رب- يتعذب يعقوب؟ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن؟ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم المنوع الأشكال؟ لماذا؟..
ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب؛ لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة! ثم ماذا؟ ثم ليستقدم أبويه وإخوته ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل، ليضطهدهم فرعون، لينشأ من بينهم موسى ـ وما صاحب حياته من تقدير وتدبير ـ لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه!
ومن ذا الذي يذكر مثلًا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثًا شخصيًّا فرديًّا، إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق، ومروره بمصر، ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل، ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم، لينشأ محمد صلى الله عليه وسلم من نسل إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذه الجزيرة، أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام.. ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام! إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد، لكل حادث، ولكل نشأة، ولكل مصير، ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير، إنه قدر الله النافذ، الشامل، الدقيق، العميق. اهـ.
هذا، وننصح بالكف عن التعمق وكثرة البحث والخوض في مسائل القدر، مع تأكيد الإيمان بما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله قدر مقادير الخلق، فعلمها قبل وقوعها، وكتبها، وشاءها، وخلقها وأوجدها، فقد قال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى في كتابه: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ـ فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.. اهـ
والله أعلم.