عنوان الفتوى : ليس في حديث: "قمن يبتدرن الحجاب" دلالة على نفي مشروعية النقاب
بالنسبة للحديث الذي رواه البخاري ومسلم، وأحمد وأبو يعلى، والمتقي الهندي. عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أخبره أن أباه سعدا قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، قال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا، إلا سلك فجا غير فجك. وأيضا عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة قد رفعن أصواتهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استأذن عمر ابتدرن الحجاب. لماذا هؤلاء النسوة كشفن وجوههن أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغطينها أمام عمر -رضي الله عنه-؟ وإذا كان ردكم برأي ابن حجر في أنهن أزواجه، فهذا خطأ محض! فكيف يكلم عمر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعدوات أنفسهن، فهذا لا يليق! وأيضا رأي ابن حجر أن هذا من خصوصياته، فهذا خطأ فادح أيضا؛ لأننا نقفو أثر الرسول صلى الله عليه وسلم تمشياً مع قوله تعالى: "وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" فهو إذا لم ينه عن كشف الوجه، وأعتقد أن هذا دليل بين على أن النقاب ليس بفريضة، كما يزعم أصحاب المذاهب الضالة. فهل توافقوني الرأي أم لا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا نوافقك رأيك، بل ننكر عليك تعبيرك، فلا يصح، ولا يسوغ أن تصف من ذهب إلى وجوب ستر وجه المرأة بقولك: (كما يزعم أصحاب المذاهب الضالة) !!! فهذا القول قد ذهب إليه جماعة من الصحابة والتابعين، ومن أئمة العلم المعتبرين، ولهم على ذلك أدلة قوية ووجيهة، من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سبق ذكر بعضها في الفتوى رقم: 4470.
وهذا لا ينفي وجود الخلاف في المسألة، ولكنه يخرج بهذا القول عن الضعف، فضلا عن وصفه بالضلال!!! ولهذا فإنا نهيب بالسائل أن يستغفر الله تعالى، وأن يعرف لأهل العلم فضلهم وقدرهم، وأن يضع الأمور العلمية في نصابها، وإن جادل فليكن ذلك بالتي هي أحسن.
وأما بخصوص الحديث الذي ذكره السائل، فلا يصح الاستدلال به على نفي وجوب النقاب، ولا الجزم بأن هؤلاء النسوة كن كاشفات الوجوه؛ لأن الحجاب في قوله: "قمن يبتدرن الحجاب" ليس معناه الثوب الذي يغطى به الوجه، وإنما معناه الستر، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. والمعنى أنهن سارعن إلى القيام والاختباء وراء الستر.
قال القاري في (المرقاة): "ابتدرن الحجاب" أي بالانتقال من مكانهن، وإخفاء حالهن وشأنهن. اهـ.
ويؤكد ذلك أن هذه العبارة قد ثبتت في إحدى روايات صحيح البخاري هكذا: (يبتدرن في الحجاب).
قال القسطلاني في (إرشاد الساري): "يبتدرن الحجاب" أي يتسارعن إليه، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "في الحجاب". اهـ.
ويؤكده كذلك ما ورد في رواية لأحمد في مسنده: وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرن، رافعات أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر انقمعن وسكتن.
والانقماع هو الدخول، والتغيب في الشيء.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في (غريب الحديث): قولها: "انقمعن" تعني دخلن البيت وتغيبن. ويقال للإنسان: قد انقمع وقمع، إذا دخل في الشيء، أو دخل بعضه في بعض. قال الأصمعي: ومنه سمي القمع الذي يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل في الإناء يقال منه: قمعت الإناء أقمعه قمعا. اهـ.
وأما وصف شرح الحافظ ابن حجر بالخطأ المحض! فهو محض الخطأ، فمثل هذه الدقائق، وفروع المسائل لا يسارع للجزم فيها إلا الأغرار، وقد كان يكفي الباحث في مثل هذا الموضع من بيان الحديث، أن يذكر خلاف أهل العلم فيه، ثم ترجيح الراجح، دون جزم بتمحض خطأ المخالف، ولاسيما ومعه دليله المعتبر، والحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ أقل ما يقال في كلامه: إنه وجيه ومحتمل. ويظهر هذا بقليل من التأمل.
حيث قال في شرح قوله: "وعنده نسوة من قريش": هن من أزواجه. ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن، لكن قرينة قوله "يستكثرنه" يؤيد الأول. والمراد أنهن يطلبن منه أكثر مما يعطيهن. وزعم الداودي أن المراد أنهن يكثرن الكلام عنده. وهو مردود بما وقع التصريح به في حديث جابر عند مسلم، أنهن يطلبن النفقة. اهـ.
وحديث جابر بن عبد الله عند مسلم، لفظه: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا، فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ... الحديث.
وقد سبق ابن حجر إلى هذا المعنى شيخه ابن الملقن فقال في (التوضيح): قوله: "ويستكثرنه": يريد العطاء، وقد أبان في موضع آخر أنهن يردن النفقة، وقال الداودي: أراد يكثرن من الكلام عنده. والأول أظهر؛ لأنه قال: "يكلمنه، ويستكثرنه" يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال لمن أكثر كلامه: استكثر. اهـ.
ووافقه على ذلك كثير من الشراح كالطيبي في (الكاشف عن حقائق السنن) وابن الجوزي في (كشف المشكل) والقسطلاني في (إرشاد الساري) والسيوطي في (التوشيح).
وقد سمى بعضهم هؤلاء النسوة.
فقال القسطلاني في (إرشاد الساري): (وعنده نسوة) من أزواجه (من قريش) عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وغيرهن. حال كونهن (يسألنه ويستكثرنه) أي يطلبن منه أكثر مما يعطيهن. اهـ.
والمقصود أن كلام الحافظ ابن حجر إن لم يكن هو الراجح، فهو وجيه معتبر، ولا يصح بحال وصفه بالخطأ المحض، وإن كنا نقر بأن هذا موضع خلاف بين الشراح، فمنهم من ذهب إلى غير ما ذهب إليه الحافظ.
قال ابن هبيرة في (الإفصاح): في هذا الحديث من الفقه: تعين طلب العلم على النساء، حتى إذا لم يكن في أزواجهن من العلم ما يكتفين به، وقصدن العالم وسألنه؛ فإن هذا الحديث لم يصرح فيه أن النساء اللواتي كن عند النبي صلى الله عليه وسلم أزواجا، بل قال: نسوة. نكرة. اهـ.
وقال القاضي عياض في (إكمال المعلم): معنى "يستكثرنه" أي يطلبن كثيرا من كلامه، وجوابه، وحوائجهن عنده، أو يكثرن عليه من السؤال والكلام. اهـ.
وذكر مثله النووي في شرح مسلم ونسبه للعلماء.
وقال ابن قرقول في (مطالع الأنوار): قوله: "وَيَسْتَكْثِرْنَهُ" أي: يكثرن عليه السؤال والكلام، أي: يطلبن منه استخراج الكثير منه، أو من الحوائج. اهـ.
وأما قول السائل: (فكيف يكلم عمر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعدوات أنفسهن ..؟)
فجوابه أن مخاطبة أمهات المؤمنين لا تليق بمثل هذا، إلا لمن كان في مكانة عمر، ومنزلته من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المسلمين، فقد كان أحد أحماء النبي صلى الله عليه وسلم، وابنته حفصة إحدى المخاطبات بذلك.
قال محمد أنور شاه الكشميري في (فيض الباري): قوله: "يا عدوات أنفسهن" وإنما يصلح مخاطبة أمهات المؤمنين بمثل تلك الكلمات لعمر، فإنه كان له عند الله ورسوله مكانا لم يكن لغيره، وما كان لنا أن نتكلم فيهن بمثلها. اهـ.
وأما قول السائل: (رأى ابن حجر أن هذا من خصوصياته، خطأ فادح ..) فهو على سبيل ما مضى من التسرع، والجرأة في غير موضعها. وعلى أية حال فكلام ابن حجر ـ رحمه الله ـ في مسألة الخصوصية، لم تكن في شرح الحديث المذكور في السؤال، وإنما في شرح حديث الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بُنِيَ عَلَيَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ... الحديث.
قال: "كمجلسك" بكسر اللام، أي مكانك، قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة، أو عند الأمن من الفتنة. اهـ.
والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية، والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان، في دخوله عليها، ونومه عندها، وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية. اهـ.
وقد نقل ذلك السيوطي في باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بإباحة النظر إلى الأجنبيات، والخلوة بهن، من كتاب (الخصائص الكبرى) ثم قال: وفي الخصائص لابن الملقن: وقد ذكر حديث أم حرام: من أحاط علما بالنسب، علم أنه لا محرمية بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين ذلك الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقال: هذا خاص بأم حرام، وأختها أم سليم. قال ابن الملقن: والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فيقال: كان من خصائصه الخلوة بالأجنبية، وقد ادعاه بعض شيوخنا. اهـ.
فأي فداحة في الخطأ هنا؟! ثم لا يخفى أن ثبوت بعض الخصائص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا تنافي اقتداءنا وتأسينا به؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، فيستثنى من محل الاقتداء ما ثبتت فيه الخصوصية.
ومع ذلك، فلا يمكن القطع بحمل الحديث محل السؤال على الخصوصية، وإنما هو احتمال وجيه، وهناك احتمالات أخرى ذكرها السندي في حاشيته على صحيح البخاري.
قفال: لا يخفى أن المبادرة إلى الحجاب لازمة عند دخول الأجنبي، سواء كان عمر أو لا ؟ فما وجه التعجب، فلعل الواقعة كانت قبل آية الحجاب، أو لعل فيهن من يجوز لها الكشف عند عمر كحفصة مثلاً، فالتعجب بالنظر إلى قيامها، أو لعل التعجب من إسراعهن قبل أن يعلمن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يأذن له أم لا؟ وهذا أقرب إلى لفظ الحديث. اهـ.
والله أعلم.