عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى "وهو مليم" في قصة يونس عليه السلام وقصة فرعون

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

لماذا تاب الله تعالى على سيدنا يونس بعد الدعاء، رغم إنه كان مليما، ولم يتب على فرعون بعدما قال: (ءامنت بالذي ءامنت به بني إسرائيل)، وفرعون أيضا كان مليما، وكلاهما كان في موقف حرج؟

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله.

أولا: 

إن الله لا يظلم مثقال ذرة

لا بد من العلم أن الله سبحانه لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، قال سبحانه:  إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا   النساء/40، وقال:  إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ  يونس/44.

ثانيًا:

يونس عليه السلام نبي من أنبياء الله وفرعون عدو لله جاحد له

أما يونس عليه السلام، فهو عبد صالح من خيار عباد الله الصالحين، وسيد من سادات الأولياء، ونبي من خِيرَة أنبياء الله، ورسله، وصفوته من خلقه. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:  مَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلاَمُ  ، وفي رواية للبخاري  من قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب  رواه البخاري (3234)، ومسلم (6310) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 

وينظر للفائدة جواب السؤال: (260137).

فأين نبي الله الكريم، وولي الله، وعبده الصالح: من عدوه الله العاتي على ربه، المستكبر عليه وعلى أنبيائه ورسله، الجاحد له ولشرعه: فرعون اللعين؟!

ثالثا: 

تفسير قوله تعالى "وهو مليم" في قصة يونس

وصف الله يونس عليه السلام بقوله:  وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ  الصافات/139 - 147.

ففي هذه الآيات أن "يونس (كان من) المصلين لله قبل البلاء الذي ابتلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت، ولولا ذلك (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة يوم يبعث الله فيه خلقه محبوسًا، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجاه". انظر: "تفسير الطبري" (19/ 627).

وقوله (مُليم) " أي: وهو قد أتى ما يلام عليه (من) خروجه بغير أمر (من) الله.

يقال: ألاَمَ الرجل إذَا أتى ما يلام عليه." انتهى من"الهدية" (9/ 6161).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"فإن يونس عليه السلام ذهب مغاضبًا، وقال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت)، وقال تعالى: (فالتقمه الحوت وهو مليم)؛ ففعل ما يلام عليه، فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يُعبد دون غيره، فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة الله وحده.

وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية، بما حصل من المغاضبة، ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر، ما يوجب تجريد محبته لله وتألهه له، وأن يقول (لا إله إلا أنت) وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية، سواء صدر ذلك عن هوى النفس، أو طاعة الخلق، أو غير ذلك، فإن قول العبد: لا إله إلا أنت، يمحو أن يتخذ إلهه هواه. فكمل يونس صلوات الله عليه تحقيق إلهيته لله، ومحو الهوى الذي يُتخذ إلها من دونه، لم يبق له صلوات الله عليه وسلامه عند تحقيق قوله (لا إله إلا أنت) إرادة تزاحم إلهية الحق، بل كان مخلصا لله الدين، إذ كان من أفضل عباد الله المخلصين.

وقوله (سبحانك)، يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول: أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب، بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي".

انتهى كلامه ملخصًا مع تصرف، انظر: "الفتاوى"(10/ 248 - 287).

والحاصل: أنه يونس عليه السلام كان عبدا صالحا، موحدا لربه، مؤمنا به، مقرا له، خاضعا لحكمه، لكنه أتى من التفريط ما استوجب عليه اللوم من رب العالمين، وألقي في بطن الحوت، بهذا الذنب الذي يلام عليه، لكنه: تاب، فتاب الله عليه، وأقر وأناب، فانجاه ربه، واصطفاه. 

رابعاً:

أوجه عدم قبول توبة فرعون

أما "فرعون" لعنه الله، فكان جبارًا في الأرض طاغية، حارب أنبياء الله، وحارب أولياء الله من أهل الإيمان، ورفض التوبة والانقياد لله، ولذلك قال سبحانه عنه:  وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ  .

أي: " آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسول." انظر: "تفسير البغوي" (7/ 378).

ولا يختلف المسلمون أن فرعون عاش كافرًا، ومات كافرًا، وأنه من أشد الناس كفرًا، وأن مصيره إلى النار خالدًا مخلدًا فيها أبدًا.

قال الله تعالى عن فرعون وقومه: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ  غافر/45 -46.

وآل فرعون هنا: هم فرعون وقومه.

وأما قصة غرقه، وقوله ما قاله وهو في البحر، فقد الله تعالى عنه: 

 وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ  يونس/90؛ فلم يكن ذلك إيمانا نافعا له، فإنه لم يكن مؤمنا من قبل، بل كان كافرا، عاتيا على ربه، معاندا له؛ وإنما نطق بذلك عند معاينة الغرق، وانقطاع الأمل في النجاة؛ وقد قضى الله تعالى أن الإيمان في هذا الوقت لا ينفع صاحبه، لأنه يكون إيمانًا اضطراريًا.

وقد قال الله تعالى:  إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا   النساء/17-18.

ويدل على هذا المعنى في قصة فرعون تمام الآيات التي في سورة يونس، حيث يقول الله تعالى:  آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ   يونس/ 91-92.

والمعنى: "آلآن آمنت حيث لا ينفعك إيمانك، فاليوم ننجيك ببدنك، لتكون لمن بعدك آية وعبرة يعتبرون بك، فينزجرون عن معصية الله، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد". وانظر: "تفسير الطبري" (15 /194).

وقال "الرازي" في "تفسيره" (17/ 296) في أوجه عدم قبول توبة "فرعون":

"الوجه الأول: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء، وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة، ولهذا السبب قال تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) [غافر: 85].

الوجه الثاني: هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة، فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية، وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقرونًا بالإخلاص، فلهذا السبب ما كان مقبولًا "، وذكر أوجهًا أخرى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ: فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: أَنَا اللَّهُ؛ (حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ اللَّهُ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ: إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ وَهَذَا مِنْ هَذَا "انتهى من "مجموع الفتاوى" (18 /190).

وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم : (159804).

الحاصل:

أن قياس حال فرعون اللعين، على حال نبي الله الكريم، يونس عليه السلام، من أفسد القياس وأبطل الباطل، وأبعد المحال؛ فأين حال العدو، من حال الولي. 

وأما أن فرعون: (مليم)، ويونس عليه السلام: التقمه الحوت، وهو (مليم)؛ فلا يستوجب ذلك اشتباها، ولا قياسا، فإن الكافر يستحق اللوم على كفره، والعاصي يستحق اللوم على معصيته، لكن أين لوم الكافر وعذابه، من لوم المؤمن العاصي؟ فكيف إذا كان نبيا من أنبياء الله المكرمين. 

والله أعلم.