عنوان الفتوى : أنواع أحاديث النفس وعلاقتها بالغيب
هل حديث النفس: حديثي، أو حديث الشيطان، أحيانا يكون صحيحا، كأنه حديث الله عز وجل، يحدثني نفس حديث الصدر، نفس صوتي، يعلمني ماذا يحدث، ويكون صحيحا؛ لأن الشيطان لا يعلم الغيب؟ جزاكم الله خير.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن المراد بالسؤال غير واضح، لكن إن كنت تقصد ما يقع في النفوس من الإلهام، والكشف ونحوها: فذلك قد يكون أمرا نفسانيا، وقد يكون مصدره شيطانيا، وقد يكون رحمانيا ملائكيا، وهذا النوع الأخير هو المحمود، وهو الذي يكون كرامة من الله لعبده المؤمن.
قال ابن تيمية: واذا كانت الرؤيا على ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا من حديث النفس، ورؤيا من الشيطان. فكذلك ما يلقى في نفس الإنسان في حال يقظته ثلاثة أقسام؛ ولهذا كانت الأحوال ثلاثة: رحماني، ونفساني، وشيطاني. وما يحصل من نوع المكاشفة، والتصرف ثلاثة أصناف: ملكي، ونفسي، وشيطاني. فإن الملك له قوة، والنفس لها قوة، والشيطان له قوة، وقلب المؤمن له قوة. فما كان من الملك ومن قلب المؤمن فهو حق، وما كان من الشيطان ووسوسة النفس، فهو باطل. اهـ.
وقال أيضا: نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف. إما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن، إما برياضة، أو بغيرها وهذا هو الكشف النفساني.
لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية، وجود الجن، وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم، كما للكهان المصروعين وغيرهم.
ثم قال: ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى، كالجن المخبرين لكثير من الكهان، بكثير من الأخبار. وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره، أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره، ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة. فهذا نوع من المكاشفات، والإخبار بالغيب غير النفساني.
وأما القسم الثالث وهو: ما تخبر به الملائكة، فهذا أشرف الأقسام، كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية، فالإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية، ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية، وغير شيطانية، ويكون عن أسباب ملكية. اهـ. من الصفدية بتصرف.
وقال ابن القيم: الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، كالكشف عما في دار إنسان، أو عما في يده، أو تحت ثيابه، أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارة، ومن النفس تارة، ولذلك يقع من الكفار، كالنصارى، وعابدي النيران والصلبان، فقد كاشف ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أضمره له وخبأه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت من إخوان الكهان» فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قدره، وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره، كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته، وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليغوي الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة، وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف.
والكشف الرحماني من هذا النوع: هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة -رضي الله عنهما- إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر -رضي الله عنه- لما قال: يا سارية الجبل، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن. اهـ. من مدارج السالكين.
وكون الكشف صادقا واقعا، لا يقتضي أنه كشف رحماني، فقد يكون نفسيا أو شيطانيا، ولا يشكل ذلك على تفرد الله جل وعلا بعلم الغيب، فإن ما يقع من الكشف ليس من الغيب المطلق الذي تفرد الله بعلمه، وإنما هو من الغيب المقيد الذي يطلع عليه بعض الخلق، ويغيب عن غيرهم.
قال ابن تيمية: قد قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين، الذي قال فيه: فلا يظهر على غيبه أحدا .
والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة، أو الجن، أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيبا عمن شهده. والناس كلهم: قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبا مقيدا؛ أي غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شهده، ليس غيبا مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة. وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي عالم ما غاب عن العباد مطلقا، ومعينا، وما شهدوه، فهو سبحانه يعلم ذلك كله. اهـ.
والله أعلم.