عنوان الفتوى : صحيح السنة لا يتعارض مع بعضه ولا يتعارض مع القرآن
في هذه الأيام أمر بظروف صعبة من ناحية معرفة الحقيقة، وتوجد لديّ الكثير من الأسئلة التي عرضها عليّ أحد أصدقائي، ولديّ علم في الدِّين، وهذه الأمور هي عن أحاديث كثيرة للرسول عليه الصلاة والسلام تخالف القرآن في الأحكام، وقصص كثيرة، وفهم الأحكام، والقوانين دون التطرق للشروط التامة للحكم. مثال هذه الأحاديث: "من بدّل دينه فاقتلوه"، وقد قال الله في محكم تنزيله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) مثال آخر في تعدد الزوجات يجب أن يكون لها شروط، فمثلًا (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فَانكِحُوا ما طاب لكم من النساء). وقصر الصلاة في السفر، ولكن يوجد شرط ثان: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) والكثير من الأسئلة، فهناك أحاديث كثيرة قالها لي صديقي، واستدل بآيات من القرآن تبطلها، فأرجو من فضيلتكم المساعدة، وتبيين الحقيقة، وماذا أفعل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما صحت نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم لا يتعارض بعضه مع بعض، ولا يتعارض مع القرآن؛ إذ كل ذلك وحي من عند الله تعالى، كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم:3-4}، فلا يجوز التفريق بين القرآن والسنة، ونصب الخلاف بينهما، فكلٌّ من عند الله تعالى من حيث المصدر.
أما من حيث الدلالة، والإيضاح، فالسنة هي المبينة لمراد الله تعالى في كتابه، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {النحل:44}، وقال سبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {النحل:64}، فالسنة هي الشارحة، والمبينة لمراد الله تعالى في كتابه، ولا يمكن أن يفهم القرآن بمنأى عن السنة؛ ولذلك قال من قال من أهل العلم: "القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، والسنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة". قال القرطبي في مقدمة تفسيره: قال عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ لرجل أحمق: أتجد الظهر في كتاب الله أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟! ثم عدد عليه الصلاة، الزكاة، ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرًا؟! إن كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا، وقال حسان بن عطية: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه، وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك، وقال مكحول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال يحيى بن أبى كثير: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة. اهـ. باختصار.
وبهذا يعرف أن القرآن الكريم لا بد أن يُقرأ في ضوء السنة لا العكس! خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه. رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني، وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه!! وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله. رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وصححه الألباني.
ولذلك نقول: إن حفظ القرآن من التحريف يستلزم حفظ السنة كذلك؛ لأنها هي الشارحة له المبينة لمعانيه، كما سبق لنا بيانه في الفتوى رقم: 190683.
وإذا كانت آيات القرآن فيها العام والخاص، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الناسخ والمنسوخ، مما قد يشكل على بعض الناس فيظنونه تعارضًا، وليس هو في الحقيقة كذلك؛ إذ لا يمكن أن يقع تعارض بين نصوص الوحي، كما قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا {النساء:82}.
فكذلك حال آيات القرآن مع نصوص السنة، حيث تأتي مبينة لمجمل القرآن، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه، وموضحة لمشكله، كما تأتي فيها أحكام مستقلة سكت القرآن عنها، وهذا قد سبق لنا بيانه في الفتوى رقم: 40372، وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتوى رقم: 26320.
وما ذكره السائل ما هو إلا أمثلة لذلك، فقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {يونس:99}، لا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري، وغيره. وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 170755، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 222244.
وكذلك الحال في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً {النساء:3}، ليس فيه إلا شرط واحد لإباحة التعدد، وهو العدل بين الزوجات، وقد سبق لنا بيان التفسير الصحيح لهذه الآية، والرد على من أخطأ في الاستدلال بها على مسألة التعدد، وذلك في الفتوى رقم: 8402، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 309220.
وكذلك قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا {النساء:101}، قد سبق لنا الجواب عما يشكل من مفهوم الشرط في قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا {النساء:101}، وبيان أن السنة رفعت مفهوم المخالفة لهذا القيد، وجعلت إطلاق القيد صدقة من الله، وتخفيفًا على هذه الأمة، وذلك في الفتوى رقم: 114295، وقال السعدي في تفسيره: إذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذي يدل ظاهره على أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما: السفر مع الخوف، ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه: هل المراد بقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا} قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول، وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ ـ أي: والله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" أو كما قال، فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرًا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد، وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة، والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنها ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة، وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد، والصفة، فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة؛ ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102]. اهـ.
وهكذا الحال في كل ما يذكره المخالفون، أو المنحرفون عن حجية السنة، وفقهها، فلا يكون التعارض إلا في أذهانهم، إما لإنكارهم لحجية السنة أو بعضها، كخبر الآحاد، وإما لجهلم بكيفية التوفيق بين السنة والقرآن، وأما الراسخون في العلم فآمنوا بالجميع، وقالوا: كل من عند الله.
والله أعلم.