عنوان الفتوى : الأحرف المقطعة، والقدر المتحدى به من القرآن

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

السلؤال: سبق أن أرسلت لكم سؤالي رقم :(308453)، ولكن يبدو أنه لم يتضح لكم مقصدي، فأنا أقصد بالسؤال أن القرآن لا يمكن أن يأتي أحد بمثله، ومن خلال هذه الشبهة التي أوردها الملحدون قلدوا نمط الحروف المقطعة في القرآن، فكيف أستطيع الجمع بين عدم إمكان أن يأتي أحد بمثل القرآن، وتقليدهم لهذه الآيات ؟

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق

الحمد لله.

أولًا : رأي العلماء في " القدر المعجز " المتحدى به من القرآن 

اختلف العلماء في "القدر المعجز" من القرآن ، والجمهور يرون أن القدر المتحدى به سورة كاملة ولو كانت قصيرة ، قال "الدكتور مصطفى مسلم" في "مباحث في إعجاز القرآن" (40) :

" من هذا العرض الموجز لمراحل التحدّي نجد أن التحدّي استقر على تحديهم بأن يأتوا بمثل سورة من القرآن الكريم.

وبما أن السورة جاءت بلفظ نكرة (بسورة) فهي تشمل كل سورة في القرآن طويلة أو قصيرة ، فيكون القدر المعجز من القرآن هو السورة من القرآن الكريم طويلة أو قصيرة.

هذا هو رأي جمهور العلماء إلا أن بعضهم زاد على ذلك : أن مقدار السورة القصيرة وهي ثلاث آيات معجز أيضا.

ونقل عن بعض المعتزلة قولهم : إن الإعجاز يتعلق بجميع القرآن لا ببعضه.

وهذا الرأي مصادم لآيات التحدّي التي تدرّجت في التحدّي بكل القرآن إلى التحدّي بعشر سور إلى التحدي بسورة واحدة.

وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإعجاز في القليل والكثير من القرآن، من دون تقييد بسورة.

واستدلوا بظاهر قوله تعالى :   فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ   [الطور : 34]؛ وقالوا : المقصود بالحديث : أيّ كلام يفيد معنى سواء كان آية أو أكثر أو أقل.

والأظهر هنا رأي الجمهور، ويؤيده ظاهر مراحل التحدّي به .

إلا أنّ لنا ملاحظة على القياس الذي زاده بعضهم ، وهو (مقدار السورة الواحدة) ، فالمقرر لدى الجمهور أنّ السورة جاءت منكّرة فشمل السور الطويلة والقصيرة. وأقصر سورة في القرآن الكريم مقدارها ثلاث آيات ، فهل كل ثلاث آيات في السور الطوال- أو التي تزيد آياتها على ثلاث- هي معجزة بغضّ النظر عن ارتباط هذه الآيات ببعضها ، أو وحدة موضوعها وهدفها؟.

إننا نجد كثيرا من الآيات المفردة في القرآن تزيد على كثير من السور القرآنية القصيرة ، وإننا نلاحظ أن للسورة القرآنية شخصية وذاتية مستقلة، تختلف من حيث الأداء والمقاطع والمفاصل عن غيرها من السور ، وإن كانت متشابهة في الموضوع والهدف. ولعل هذا هو ما دفع بعض العلماء إلى تعريف السورة بقولهم : "السورة : قرآن يشتمل على آي ، ذي فاتحة وخاتمة ، وأقلّها ثلاث آيات". وهذه الفاتحة والخاتمة ووحدة الشخصية واستقلالها لا نجدها في الآية الواحدة ، أو حتى في الآيات المتعددة أحيانا.

وهذه الميزات بارزة في السور القصيرة أكثر من غيرها، لو تدبّرناها لوجدنا أنها تضاهي الطوال رباطا ونظاما ، فإن دقة العلاقة ولطافة الرباط في آيات القصار، مثل ما هي في الطوال.

والسورة القصيرة قد تضمنت في الغالب أصول الدين، ونبهت على أسس العقيدة ، لذا نجد في بعض الآثار وصف بعضها بأنها تعدل ثلث القرآن أو نصفه أو ربعه ، وما ذلك إلا لأن ألفاظها القليلة تضمنت حقائق ضخمة عامة. والحكمة في تضمّن هذه السور مثل هذه الأمور العظام- والله أعلم- هي أن أصول الدين وأسس العقيدة تشتدّ الحاجة إلى حضورها في القلوب وسيطرتها على الأفكار ، فأودعت في كلمات مختصرة تامة، لتكون كالأمثال السائرة الخفيفة على اللسان الغزيرة في الجنان ، فلو عوّل في تعليمها على كلام طويل لضاعت في مطاويه ، ولما تمكّنت الأذهان من استيعابه من بين جزئيّات الأحكام والهدايات الأخرى.

لذا نقول : يجب التفريق بين أمرين :

الأول: ما وقع به التحدي ، فالتحدي لم يقع على أقل من سورة ، والسورة تطلق على القصيرة والطويلة ، والسورة بشخصيتها المستقلة هي المقصودة في آيات التحدي، والإتيان بمثلها خارج عن طوق الإنس والجن وإن قصرت، كسورة الكوثر.

الأمر الثاني : القدر الدال على كون القرآن كلام الله ، أي معرفة مصدر القرآن وكونه وحيا منزلا من الله ، وهذا لا يُتقيد فيه بمقدار معين ، فقد يدرك ذلك من خلال سورة أو من خلال آية واحدة أو بعض آية أو كلمة واحدة ، فورود بعض الكلمات في سياق الحقائق الكونية أو الحقائق العلمية في النفس الإنسانية يدل على أن ذلك لا يدخل في نطاق العلم البشري ، كما في قوله تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً ) [المرسلات : 25 ، 26] ، وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) [الفرقان : 45 ، 46] ، وقوله تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ) [الزمر : 6].

فهذه الحقائق لم تكن في مقدور أحد من البشر أن يحيط بها علما عند نزول القرآن الكريم ، فدل ذلك على أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض هو منزل القرآن الكريم ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) [الفرقان : 4 - 6]" انتهى .

وعليه ؛ فلم يتحد القرآن الكريم أحدًا أن يأتي بحروف من جنس الحروف المقطعة ، لأنه لم يقع بها التحدي ، وإنما جاءت في السور لمغزى ، وهو : أن الله أخبر العرب أن القرآن مؤلف من جنس هذه الحروف فلم عجزتم عنه ؟!

يقول العلامة الشيخ "محمد عبد الله دراز" في "النبأ العظيم" (198) في حديثه عن الأحرف المقطعة في بداية سورة "البقرة" : " بدئت السورة الكريمة بأحرف مقطعة لا عهد للعرب بتصدير مثلها في الإنشاء والإنشاد ؛ وإنما عهدوها من القراء الكاتبين في بدء تعليمهم التهجي للناشئين. ومهما يكن من أمر المعنى الذي قصد إليه بهذه الأحرف ، والسر الذي وضعت هنا من أجله ، فإن تقديمها بين يدي الخطاب مع غرابة نظمها وموقعها، من شأنه أن يوقظ الأسماع ويوجه القلوب لما يلي هذا الأسلوب الغريب ".


ثانيًا : عصر نزول القرآن أزهى عصور البيان العربي عجز أهله أمام تحدي القرآن عن الإتيان بسورة من مثله 

يقول العلامة د. دراز : " ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم : هل يقدرون أن يأتوا بمثله؟ فإن قالوا لك : "لو نشاء لقلنا مثل هذا" ، فقل : "هاتوا برهانكم! " . وإن قالوا : "لا طاقة لنا به" ، فقل : أي شيء أكبر من العجز، شهادةً على الإعجاز؟

ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله : ما بال القرون الأولى؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره ، وأن بضعة النفر الذين أنغضوا رءوسهم إليه ؛ باءوا بالخزي والهوان ، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان.

أجل ، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن ، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي ، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي ، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها ، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟ ..

وما هذه الجموع المحشودة في الصحراء ، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم ، وأجود صناعاتهم؛ وما هي إلا بضاعة الكلام ، وصناعة الشعر والخطابة ، يتبارَوْن في عرضها ونقدها ، واختيار أحسنها والمفاخرة بها ، ويتنافسون فيها أشد التنافس ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب.

فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضت ، إلا منه ، وإذا الأندية قد صَفِرت ، إلا عنه ، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة ، بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات. بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى ، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف : فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله ، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله ، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله ، ثم بسورة واحدة من مثله ، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا ، ثم رماهم ، والعالَم كله بالعجز ، في غير مواربة؛ فقال : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، وقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ، فانظر أي إلهاب ، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله وَلَنْ تَفْعَلُوا ثم هددهم بالنار ، ثم سواهم بالأحجار ، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته ، وهم الأعداء الألداء ، وأباة الضيم الأعزاء ، وقد أصاب منهم موضعَ عزتهم وفخارهم ، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته ، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته ، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ ، فما اسطاعوا أن يظهروه ، وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم ، واستيقنوا عجزهم ؛ ما كان جوابهم إلا أن ركبوا مَتْن الحُتوف ، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان ، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان.

ومضى عصر القرآن، والتحدي: قائمٌ، فليجرب كل امرئ نفسه ، وجاء العصر الذي بعده ، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ، ولم تنحرف ألسنتهم ، ولم تتغير سليقتهم ، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه ، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم ، لفعلوا ، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل.

ثم مضت تلك القرون ، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون ، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد ، كانوا أشد عجزًا، وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز. فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم ، وكان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين : وجداني وبرهاني..

ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن ؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها" ، انتهى من"النبأ العظيم" (112 - 114).

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (296622) و (284163) .

والله أعلم.