عنوان الفتوى : تقدير الله للمقادير ليست حجة صحيحة في ترك العبد فعل الأسباب

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

سؤال دائمًا يراودني، وهو أني حاليًا أحس بأنني غير موفق في دراستي للهندسة في الجامعة، وذلك بسبب علمي أن من وفّقه الله في أمر من أمور دنياه سيهيئ له أسبابه بلا شك، وكثيرًا ما أفكر بأني غير قادر على الأخذ بالأسباب المعينة لتحقيق النجاح في دراستي الجامعية؛ لأن الله غير راضٍ عنّي؛ لأني قد عصيته في الليل والنهار، أو أن الله يعلم في علم الغيب عنده أن مآل هذه الدراسة ليس لي فيها خير لي حينما أفشل في القيام بما طلب مني من واجبات دراسية، ويصيبني التخبط في النوم، ومن ثم؛ عدم التوفيق في الإجابة عن الامتحانات، وضغط الوقت، وعدم البركة به، وأذى بعض الزملاء من السخرية، والاستغلال، وأرى نفسي ضعيفًا جدًّا أمام ما أنا فيه، وأظنّ في نفسي أني من المحرومين من توفيق الله بسبب ذنوبي، أو أني قد يجب أن أحوّل تخصصي؛ لأني مستقبلًا لن أستطيع تحمله أو ..أو ..، فهل من وفّقه الله في أمر من الأمور لن يشعر بما أنا أشعر به، أم إن عليه أن يجاهد نفسه حتى يحقق مراده؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فنسأل الله أن يوفقك، وأن يعينك على الخير، ونوصيك بنبذ مثل هذه الوساوس وراء ظهرك، واعلم أن التقاعس عن تحصيل المصالح اتكالًا على القدر هو شأن الكسالى العاجزين؛ فالمؤمن مأمور بالحرص على كل ما ينفعه في دينه، ودنياه، وأن يتجافى عن العجز، والخور؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان. أخرجه مسلم.

قال ابن تيمية: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة الله ورسوله، وهي عبادة الله تعالى. وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}، ونهاه عن العجز، وهو الإضاعة، والتفريط، والتواني، كما قال في الحديث الآخر: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني" رواه الترمذي.

وفي سنن أبي داود: "أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما. فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". فالكيس ضد العجز. وفي الحديث: "كل شيء بقدر حتى العجز، والكيس" رواه مسلم.

وليس المراد بالعجز في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاد القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال.

ثم لما أمره بالاجتهاد، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل. ولا يتحسر، ويتلهف، ويحزن، ويقول: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا. فإن لو تفتح عمل الشيطان.

وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: الأمر أمران؛ أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا تعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا تجزع منه. اهـ. من جامع الرسائل.

قال ابن القيم: فتضمن هذا الحديث الشريف أصولًا عظيمة من أصول الإيمان:

منها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه، ومعاده، والحرص هو بذل الجهد، واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به؛ فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص، فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. ولما كان حرص الإنسان، وفعله إنما هو بمعونة الله، ومشيئته، وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فأمره بأن يعبده، وأن يستعين به، ثم قال: ولا تعجز؛ فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز. فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمّة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، فإن فاته ما لم يقدر له، فله حالتان؛ حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى لو، ولا فائدة في لو ههنا، بل هي مفتاح اللوم، والجزع، والسخط، والأسف، والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر، وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال: فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل. فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين؛ حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر، والكسب، والاختيار، والقيام، والعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه. اهـ. من شفاء العليل.

فليس من العقل أن يتخاذل الرجل عن فعل الأسباب التي يحصل بها مصالحه بزعم أن من وفقه الله سيهيئ له الأسباب، فهذه من حجج البطالين، وذوي الهمم القميئة، فتقدير الله -عز وجل- للمقادير ليست حجة صحيحة في ترك العبد فعل الأسباب؛ فقد أخرج الشيخان عن علي -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فأخذ شيئًا فجعل ينكت به الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة» قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} [الليل: 6] الآية.
قال ابن القيم: وفيه إثبات الأسباب، وأن العبد ميسر للأسباب الموصلة له إلى ما خلق له، وفيه دليل على اشتقاق السنة من الكتاب، ومطابقتها له؛ فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ومطابقته لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى آخر الآيتين كيف انتظم الشرع، والقدر، والسبب، والمسبب.

وهذا الذي أرشد إليه النبي هو الذي فطر الله عليه عباده، بل الحيوان البهيم، بل مصالح الدنيا، وعمارتها بذلك، فلو قال كل أحد: إن قدر لي كذا وكذا، فلا بد أن أناله، وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله، فلا أسعى، ولا أتحرك؛ لعدّ من السفهاء الجهال، ولم يمكنه طرد ذلك أبدًا، وإن أتى به في أمر معين، فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه، وهروبه مما يضاد بقاءه، وينافي مصالحه؟ أم يجد نفسه غير منفكة البتة عن قول النبي: اعملوا فكل ميسر لما خلق له؟! اهـ. من التبيان في أيمان القرآن.

وأما الذنوب، والسيئات: فلا ريب في أنها أعظم سبب يحول بين العبد، وحصول الخير له، والمسلم يحاسب نفسه، ويخشى أن يكون ما يصيبه مما يسوء عقابًا له بمعاص اجترحها، لكن لا يعني ذلك أن كل إخفاق في دراسة، أو نحوها لا بد أن يكون عقوبة على معصية من العبد، فإن ذلك ليس بلازم.

وأيضًا: فالمقصود من محاسبة النفس هو ترك الذنوب، والتوبة منها، وأما مجرد الربط بين الذنوب وإخفاق المرء في شؤونه الدنيوية دون توبة صادقة، فقد يكون حيلة نفسية لتسويغ العجز، والتواني.

وكذلك: فإن على المرء أن يقتصد في محاسبته لنفسه، ولا يغلو في تقريعها، وتأنيبها؛ فإن ذلك قد ينتهي إلى به اليأس، والقنوط.

فالذي نوصيك به هو: لزوم الاستعانة بالله -جل وعلا-، ودعاؤه أن ييسر لك الخير، وأن يلهمك الرشد، وحيث ما ظهر باب تراه أنفع لك، فالزمه، وابذل ما في وسعك لتحصيله، وجاهد نفسك في التغلب على ما يعوق طريق نجاحك من أذى الناس، وغيره، وإن غُلبت على أمر، وحيل بينك وبينه -بعد بَذْلِك الأسباب الممكنة- فحينئذ لا يسعك إلا الصبر، والرضا بقدر الله، وقضائه.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 75054.

والله أعلم.