عنوان الفتوى : التعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى: {والسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت}، واختلاف العبارة بين يحيى وعيسى عليهما السلام .
عند قراءتي للقرآن الكريم بتدبر لآياته ، هناك آية لفتت انتباهي ، وكنت أريد أن أعرف تفسير أو توضيح هذه الآية القرآنية ، فى سورة مريم فى قصة سيدنا يحيى عليه السلام حين قال الله تعالى : (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من خلال فهمى للآية أن سيدنا يحيى ولد : فعل فى الماضي ، ولما قال : ويوم يموت ، أي أنه لم يمت ، فأريد أن أعرف لماذا قال: ويوم يموت ، ولم يقل : ويوم مات ؟ أليس سيدنا يحيى عليه السلام قد مات بالفعل ، على عكس سيدنا عيسي عليه السلام الذى لم يمت بعد !! (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) ولدت : فعل ماضى ، أموت وأبعث: فعلان فى المستقبل ؟ ثانيا: وهو الفرق هنا لماذا قال الله تعالى (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) لسيدنا يحيي عليه السلام ، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) لسيدنا عيسى عليه السلام ؛ هل سبب ذلك أن يحيى عليه السلام كان له والدان ، وأن سيدنا عيسى عليه السلام كان له أم فقط ؟
الحمد لله :
أولًا :
من الخير العظيم أن ينشغل الإنسان بفهم القرآن المجيد ، وبتثوير أسئلة القرآن ، ومدارستها مع أهل العلم وطلبته .
والسؤال الأول المتعلق بالتعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى عن يحيى عليه السلام وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا مريم/15 .
فيقال في جوابه : جاء التعبير بهذه الصيغة : لاستحضار الحالة التي مات فيها يحيى عليه السلام ، وقد قتل عليه السلام ، قتله اليهود عليهم لعائن الله .
قال ابن عاشور : " جيء بالفعل المضارع في ( ويوم يموت ) لاستحضار الحالة التي مات فيها ، ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلا إجمالا " انتهى من "التحرير والتنوير" (16/78).
الانتقال في الخطاب القرآني من صيغة الماضي (يوم ولد) إلى صيغة المضارع (ويوم يموت) لا يدل – بحال – على ما ورد في السؤال ، من حياة يحي عليه السلام عند نزول هذه الآية ؛ فإن "من شأن العرب أن تبتدئ الكلام أحيانًا على وجه الخبر عن غائب ، ثم تعود إلى الخبر عن المخاطب ، والعكس .
وتارةً تبتدئ الكلام على وجه الخبر عن المتكلم ، ثم تنتقل إلى الخبر عن الغائب ، والعكس .
وأحيانًا تبتدئ الكلام على وجه الخبر عن المتكلم ، ثم تنتقل إلى الخبر عن المخاطب . كما تنتقل من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى خطاب الآخر . وتنتقل من الإخبار بالفعل المستقبل إلى الأمر، ومن الماضي إلى المضارع , والعكس".
"قواعد التفسير" (1/271).
فهذا أسلوب عظيم من أساليب البلاغة يسمى بـ "الالتفات " ، وقد سبق شرحه في جواب سؤال مشابه برقم : (278945).
ثانيا :
أما السؤال الثاني ، فخلاصة الجواب عنه ، فيما قرره بعض الناس : أن مخالفة الأم وحدها ، من دون الأب - لأي سبب يقتضي الفقد للوالد - أعظم جرمًا من مخالفة الوالدين ، لضعفها وقلة حيلتها - لذا نبه الشرع على مزيد الاعتناء بشأنها - ؛ فنبهت الآية على نفي هذا "الشقاء" ، وهو مرتبة أعلى من مجرد العصيان ، عن نبيه عيسى عليه السلام.
وفرق كثير من العلماء بينهما، بأن الله نفى العصيان عن يحيى؛ لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأثبت السعادة لعيسى عليه السلام ، لأنه لم يشق في الدنيا كما زعم اليهود ، ولم يقتل .
قال " الغرناطي " : " قوله تعالى في قصة يحيى بن زكريا، عليهما السلام،: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم: 14)، وفي قصة عيسى، عليه السلام، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 32)، فاختلف الوصفان في الآيتين، مع اتحاد مرماهما في السابق من ظاهرهما، فيُسأل عن ذلك؟
والجواب عنه - والله أعلم - أن الله سبحانه وصف يحيى، عليه السلام، بعظم التقوى في قوله تعالى: (وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 13)، وتقي فعيل من التقوى، وهو من أبنية المبالغة، فيفهم الوفاء بوجوه التقوى ، حتى لا يكون من الموصوف به معصية ولا تقصير.
فقوله بعد: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم: 14)، المراد - والله أعلم - نفي للمعاصي جملة، وهو المراد بقوله في الموضع الآخر (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا) (آل عمران: 39)، أي ممنوعاً من المعاصي، والحصر الحبس والمنع، قال مكي، رحمة الله: حصر عن الذنوب فلم يأتها.
وما قاله المفسرون من أن المراد هنا منعه من النساء ، بأي وجه قالوه : فلا يصح، والله أعلم، لأن عدم القدرة على النساء نقص، والأنبياء منزهون عن النقص، فكيف يصح ورود هذا الوصف في معرض المدحة، وهو في نفسه نقص، والقوى في ذلك كمال ومدحة، فالمراد هنا بالحصور : الممنوع عن المعاصي.
وقد روى (عمرو) بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا يحيى بن زكرياء)، ثم نوسب بين هذا الوصف وما تقدمه من قوله: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، فورد بلفظ المبالغة مثله، والمراد نفي المعاصي عنه، عليه السلام، (جملة، والتناسب في هذا كله واضح).
وأما قوله في قصة عيسى، عليه السلام (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 32) : فملحوظ في ذلك ما جرى لأتباعه، عليه السلام، وما وقعوا (فيه) من العظيمة حين قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فاستحقوا الوصف بالشقاء بمقالهم، والشقي مستحق للعذاب الأخروي.
وإلى السعادة والشقاء : انقسام العالم في الآخرة، قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود: 105)، فهما طرفا حصر العالم في الآخرة ، وهذا كقوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن: 2).
فلما لحظ في قصة عيسى، عليه السلام، عصمته من الرضا بما وقع فيه أتباعه : ناسب ذلك نفي صفة الضالين، ممن توهم أنه ممن اتبعه، ليتبرأ، عليه السلام، من حالهم كما يتبرأ حين يقول في الآخرة: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) (المائدة: 117).
فقد وضح ورود كل من الوصفين على أجل النظم وأتم المناسبة، وإن عكس الوارد لا يمكن، والله أعلم "، انتهى من "ملاك التأويل " للغرناطي : (2/ 325 - 326) .
وانظر : " بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز "، للفيروز (1 / 306).
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |